في زمن أصبحت فيه الشهرة تُنال بضغطة زر، تحوّل كثير من المنصات الرقمية إلى ساحات للجدل، لا لتبادل المعرفة أو الإلهام، بل لخلق الإثارة والضجيج. فبعض من يسمّون أنفسهم للأسف «صنّاع محتوى» ظنّوا أن الطريق إلى الجماهير يمرّ عبر كسر القيم، والتعدي على الخصوصيات، والتشهير بالآخرين تحت شعارات براقة مثل الشفافية أو كشف الحقيقة.
غير أن ما يغيب عنهم أن الحرية الإعلامية لا تعني الفوضى، وأن الكلمة مسؤولية قبل أن تكون أداة لجذب المتابعين. فحين يُساء استخدام المنصات، يتحول الإعلام من رسالة إلى أداة تشويه، ويضيع بين الترفيه المبتذل والبحث المحموم عن الترند.
وما حدث مؤخراً من إيقاف بعض الشخصيات الإعلامية بعد تجاوزها للضوابط المهنية ليس انتقاماً ولا قمعاً، بل هو انتصار للقيم المهنية والأخلاقية، ورسالة بأن المنصات الإعلامية ليست مرتعاً للفوضى، وأن احترام الذوق العام وكرامة الإنسان خط أحمر لا يُمكن تجاوزه.
وما يحدث اليوم من ضبط للمحتوى، ومحاسبة للمسيئين، ليس سوى تصحيح لمسارٍ انحرف، وتأكيد على أن المجتمعات الراقية لا تحتفي بالصوت الأعلى، بل بالفكر الأسمى.
ولأن الأضواء لا تدوم إلا لمن يستحقها، ستبقى الكلمة الصادقة تُخلّد، وتبقى الأخلاق تاجاً على رؤوس أصحابها، أما الزبد فيذهب جفاءً.
وفي خضم هذا الواقع، تبرز مسؤولية الجهات الإعلامية والرقابية في ترسيخ ثقافة الالتزام، وتفعيل القوانين التي تضع حداً للفوضى الرقمية، حمايةً للمجتمع وصوناً لهيبة الكلمة. فالمجتمع الذي لا يحاسب من يسيء، يُعرض نفسه لفوضى أخلاقية تفقده توازنه القيمي.
كم هو مؤلم أن تُختزل رسالة الإعلام في السباق نحو الشهرة، وأن يُصبح عدد المشاهدات معيار النجاح بدلاً من القيمة والمضمون. فالشخص الذي يعتاش على الإساءة للآخرين لن يكسب احترام الجمهور مهما جمع من الأرقام، لأن المصداقية لا تُشترى، والاحترام لا يُفرض.
إن التجارب أثبتت أن الشهرة الخالية من الأخلاق لا تدوم، وأن من يتسلّق على حساب سمعة الناس لا بد أن يسقط من عين المجتمع قبل أن يسقط قانوناً. فالمحتوى الهادف لا يحتاج إلى افتعال أو فضائح، بل إلى صدق ووعي ورسالة.
إن مسؤولية الإعلامي، أياً كانت منصته، أن يكون قدوة، وأن يعكس وعي المجتمع لا أن يُسيء إليه. فالإعلام ليس مهنة من لا مهنة له، ولا هو ساحة لتصفية الحسابات أو السخرية من الناس. الإعلام رسالة، وصوت ضمير، ومؤسسة أخلاقية قبل أن يكون وسيلة ترفيه أو مكسب مادي.
ومن هنا، تأتي أهمية الأدوار الرقابية، التي باتت أكثر وعياً بضرورة ضبط المحتوى ومحاسبة المسيئين حمايةً للمجتمع من الفوضى الرقمية، وردعاً لكل من يظن أن الشهرة تُبرر التجاوز. فالمجتمع الذي لا يصون قيمه، سيتحول إلى غابة إلكترونية لا مكان فيها للحق ولا للحياء.
ولعل من المؤلم أن ترى بعض الوجوه التي كانت تحظى بمتابعة جماهيرية، وقد انزلقت في مسار الإساءة والتهكّم والتجريح، ثم سقطت سريعاً بعدما أدرك الناس أن خلف الإثارة خواءً، وخلف الجرأة إسفافاً.
فما يبقى في ذاكرة الناس ليس من يصرخ أكثر، بل من يقول خيراً ويصمت عن الشرّ.
ورسالتي للمشاهير، لا تجعلوا من المنصات منابر للفتنة ولا من الشهرة وسيلةً للهدم. إن الكلمة مسؤولية، والمجتمع لن يرحم من أساء إليه باسم الحرية. الكلمة الطيبة ترفع صاحبها، أما الكلمة المسيئة فتهوي به ولو بعد حين.
إن الإعلام بلا أخلاق كالسفينة بلا بوصلة، تضلّ الطريق وتغرق بأصحابها. وإن من يطلب الشهرة بأي ثمن، سيدفع الثمن من سمعته أولاً، ومن احترام الناس له أخيراً .
وفي النهاية، تبقى الشهرة الحقيقية ليست في عدد المتابعين، بل في أثر الكلمة، ونقاء الرسالة، واحترام الإنسان للإنسان.
malhajry1@gmail.com