عبء المعرفة

في زمنٍ تتناسل فيه الحقائق كما تتناسل الشائعات، بات الإنسان المعاصر يعيش بين مطرقة الفضول وسندان الشك. نبحث عن الحقيقة كما لو كانت مخلّصًا نهائيًا من كل ما يربكنا، غير مدركين أن هذا اللهاث المتواصل نحوها قد يكون في ذاته فخًّا ينصبُه لنا الوهم، فنُنهك قبل أن نُبصر النور.
في رحلة البحث عن الحقيقة، يتوه الكثيرون في متاهات الظنون. فكل خطوة تفتح بابًا جديدًا من الأسئلة، وكل جوابٍ يُفضي إلى شكٍ آخر. نقرأ، نُحلّل، نناقش، نُفنّد، لكننا في النهاية نعود محمّلين بالريبة ذاتها. وكأننا نحمل مصباحًا صغيرًا في نفقٍ لا ينتهي.
الحقيقة ليست دائمًا نقية كما نُحب أن نتخيلها، إنها في أحيان كثيرة متشابكة، يختلط فيها الصدق بالتحليل، والعاطفة بالعقل، والمصلحة بالقيمة. لذلك، ليس غريبًا أن نرى العقول تتيه وهي تظن أنها تقترب من اليقين، بينما هي تبتعد عن السلام الداخلي خطوة بعد أخرى.
قد يكون السعي وراء الحقيقة فضيلة، لكنه يصبح عبئًا حين يتحوّل إلى هوس. حين نُفني أجمل أيامنا في تفكيك التفاصيل، ونُهدر لحظات السكينة في جدلٍ لا ينتهي حول من كان على حق ومن كان على خطأ. الحقيقة لا تسكن في الكتب وحدها، بل في نظرة صادقة، وفي موقفٍ نبيل، وفي سكونٍ نتأمله بعيدًا عن ضجيج المنابر والآراء.
يقول أحد الفلاسفة: “من أراد الحقيقة الكاملة، فليُدرك أنه لن يجدها إلا حين يتصالح مع عجزه عن امتلاكها.” هذه الجملة تختصر مأساة الإنسان المعاصر الذي يريد أن يفهم كل شيء، لكنه ينسى أن بعض الغموض ضرورة ليتذوق طعم الحياة.
لذلك، ربما يكون أجمل ما نفعله في مواجهة الحقيقة هو أن نتعلم كيف نعيش رغمها، لا أن نموت بحثًا عنها. أن نستمتع بالحاضر، لأن هذا اليوم هو نفسه الغد الذي كنا نخشاه بالأمس. أن نترك للحقيقة مساحتها لتتجلّى في وقتها، دون أن نحاصرها بظنوننا وأسئلتنا التي لا تنتهي.
في النهاية، لا أحد يملك الحقيقة المطلقة. كل ما نملكه هو نصيبٌ من الفهم، ولحظة وعيٍ عابرة تمنحنا طمأنينة مؤقتة قبل أن نعود إلى صخب الأسئلة من جديد. وكما قال سقراط : الحكمة الحقيقية هي أن تعرف أنك لا تعرف!
ahmadsinky@hotmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *