حين تتحدث الأرقام بلغة الإنسان

البيانات المالية ليست دائمًا شأنًا يثير اهتمام الناس، لكن البيان التمهيدي لميزانية المملكة للعام 2026م بدا مختلفًا هذه المرة. ليس لأنه مملوء بالأرقام والرسوم، بل لأنه قدّم لغة اقتصادية إنسانية تعكس كيف يمكن للإدارة المالية أن تترجم إلى جودة حياة، وكيف يمكن للسياسات الاقتصادية أن تُفهم من زاوية المواطن لا من جداول الإيرادات والنفقات فقط.
فالاستدامة المالية التي تتحدث عنها وزارة المالية لم تعد تُقرأ بوصفها سياسة تقشفية، بل وعي قياديٍّ بضرورة توجيه الموارد نحو ما يصنع الفرق في حياة الناس. فحين تُراجع أولويات الإنفاق، لا يعني ذلك المساس بالحقوق الأساسية أو الخدمات الحيوية، بل يعني تحسين طريقة تقديمها بما يضمن استدامتها للأجيال القادمة.
في هذا البيان تحديدًا، تظهر فلسفة متوازنة بين الطموح والرشد. فالنفقات المتوقعة للعام 2026م -والتي تبلغ نحو 1,313 مليار ريال- ليست مجرد رقم ضخم بقدر ما هي مؤشر على الثقة بقدرة الاقتصاد الوطني على النمو، وعلى مرونة المالية العامة في التكيف مع التحولات. في المقابل، يُقدّر العجز بنحو 3.3% من الناتج المحلي، وهو عجز محسوب بعناية، يُعبّر عن توازن واعٍ بين الاستدامة والنمو.
المتأمل في لغة البيان يدرك أن المواطن لم يعد متلقيًا فقط للسياسات، بل محورًا لها.
فالمملكة اليوم لا تبني بنية تحتية مادية فقط، بل بنية معيشية تجعل الإنسان في قلب القرار الاقتصادي.
فالاستثمار في الصحة والتعليم والتنمية الاجتماعية لم يعد بندًا في الميزانية، بل هو استثمار في رأس المال البشري، الذي يمثل أساس أي اقتصاد مستدام. ومن اللافت أن الأنشطة غير النفطية أصبحت تمثل 55.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه النسبة لم تعد مجرد رقم اقتصادي بقدر ما هي تحول ثقافي في مفهوم الازدهار: من الاعتماد على المورد الأحفوري إلى الاعتماد على الإنسان المنتج والمبدع والمستثمر في ذاته.
تلك التحولات الهيكلية لم تأتِ صدفة. هي نتاج رؤية بدأت منذ العام 2016م، حين قررت المملكة أن تبني اقتصادها على التنوع والاستدامة، فنجحت في خلق نموذج تنموي يجعل جودة الحياة جزءًا من معادلة الكفاءة. حافظت المملكة على تصنيفات ائتمانية مرتفعة «A+» من فيتش و»Aa3» من موديز، مع نظرة مستقرة، وهو ما يعكس ثقة المؤسسات الدولية في متانة هيكلها المالي وقدرتها على إدارة الدين والتمويل بكفاءة، دون أن تمس برامجها الاجتماعية أو التزاماتها التنموية.
هذه المرونة المالية المصحوبة بالالتزام الاجتماعي هي ما يميز التجربة السعودية اليوم.
فحين تتبنى الحكومة سياسة مالية توسعية محسوبة، فإنها تفعل ذلك إدراكًا بأن رفاه المواطن جزء من الأمن الوطني، وأن جودة الحياة ليست رفاهية بل ركيزة للاستقرار.
كما أن تنامي الإيرادات غير النفطية لتصل إلى 40% من إجمالي الإيرادات، يكشف أن الدولة لم تكتفِ بتقليل الاعتماد على النفط، بل خلقت بيئة تُشرك المجتمع والقطاع الخاص في دورة النمو.
منشآت صغيرة، مشاريع ريادية، استثمارات محلية، ومبادرات تنموية جميعها أصبحت تشارك في تشكيل اقتصاد أكثر وعيًا وإنصافًا واستدامة.
إن ما يميز الخطاب المالي السعودي اليوم هو أنه لم يعد يتحدث فقط عن الناتج المحلي والإنفاق العام، بل عن الإنسان كقيمة اقتصادية عليا.
فكل بند في الميزانية هو وعد بتحسين جودة الحياة، وكل رقم في البيان التمهيدي هو انعكاس لرؤية وطن يربط بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
في النهاية، الاقتصاد القوي لا يُقاس فقط بقدرته على توليد الإيرادات، بل بقدرته على صناعة الطمأنينة في نفوس مواطنيه.
وما دام المواطن محور التنمية، فإن البيان التمهيدي للعام 2026م ليس مجرد وثيقة مالية، بل شهادة على أن السعودية تسير بخطى ثابتة نحو تنميةٍ تُوازن بين المال والإنسان، بين الحاضر والمستقبل، وبين الأرقام والحياة.
dr0lamia@gmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *