في زمن تتسابق فيه الأصوات على الظهور، وتتنافس الأرواح على لحظة اعتراف، فاز العالم الأميركي فريد رامسديل بجائزة نوبل وهو لا يعلم، فقد كان يمشي وحيدا في دروب الطبيعة، منصتا لنبض الأرض، مبتعدا عن شاشات العالم وموجاته، إنها مفارقة الزمن الرقمي، حينما تغيب عن الإنترنت لتلتقي بذاتك، وأن تكون خارج الاتصال الشبكي لتصل إلى أعمق ما في الوجود.
لقد أهدى فريد رامسديل وزملاؤه للعلم والإنسانية اكتشافا لا يُنقذ الأجساد فحسب، بل يُنقذ الإنسان من ذاته، فقد كشفت أبحاثهم عن الخلايا التائية التنظيمية، تلك الحارسة الصامتة التي تمنع الجسد من أن ينقلب على نفسه، وتذكّرنا بأن التوازن هو أعمق صور الحكمة في الكون، وفي رمزية مدهشة، جسّد رامسديل هذا المعنى حين ابتعد عن صخب العالم، ليعيش انسجامه مع الطبيعة كما تنسجم خلايا الجسد في صمتها الخيّر، فاكتشافه ليس درسا في المناعة فحسب، بل في السكينة الداخلية التي تمنح الحياة معناها، وكأن رسالته إلى الإنسانية اتقول: كما يحتاج الجسد إلى خلية تحميه من فرط الدفاع، يحتاج القلب إلى عزلة تحميه من فرط الضجيج، فالتوازن هو أسمى أشكال الشفاء.
لقد أضافت اكتشافات العلماء والفائزين بجوائز نوبل إلى العلم والإنسانية بُعدا أخلاقيا ووجدانيا؛ لأنّ كل إنجاز في المختبر هو أيضا انتصار للإنسان في داخله، فالذي يكتشف دواءً أو يفسر ظاهرة لا يضيف إلى الكون معرفة فحسب، بل يضيف إلى الروح الإنسانية إيمانا بإمكانية التقدّم رغم العناء، وبأنّ البحث عن الحقيقة هو في ذاته شكل من أشكال الحبّ للحياة.
ومن بين هؤلاء الفائزين، يبرز اسم جون ناش، عالم الرياضيات العبقري الذي جسّد في حياته المفارقة الكبرى بين النبوغ والجنون، فقد عاش ناش مصابا بمرض انفصام الشخصية، إذ يرى ما لا يُرى، ويعيش بين عالَمين متوازيين من الوهم والحقيقة، وبالرغم من ذلك، لم يتخلّ عن معادلاته، ولم يتنازل عن حلمه بأنّ في كل فوضى نظاما خفيا ينتظر من يكتشفه، وحين فاز بجائزة نوبل، لم يكن انتصاره انتصار العقل على الأرقام، بل انتصار الإنسان على عتمة ذاته؛ وقد جسّد فيلم
Beautiful Mind تلك المعركة الوجودية في واحدة من أعمق صور الجمال الإنساني، ليذكّرنا بأنّ العظمة لا تسكن العقول الكاملة، بل القلوب التي لا تستسلم.
وليس ناش وحده من جعل من العقل ميدانا للمقاومة، فقد سبقه في التاريخ أرخميدس، الفيلسوف والعالم الإغريقي الذي كان غارقا في حساباته حين اقتحم الجنود منزله أثناء الحرب، فصرخ في وجههم: «لا تفسدوا دوائري!»، قالها دفاعا عن فكرته كما يدافع المحارب عن وطنه، فهو لم يكن يحمل سيفا، بل حمل معادلة، وكانت معركته ضد الجهل لا ضد الإنسان، فقد قُتل وهو يرسم منحنياته الأخيرة، لكنه خُلّد لأنه جعل من الفكر مقاومة، ومن الشغف حياة.
إن هؤلاء الفائزين، في العلم أو في التاريخ، لا يجتمعون في اللقب أو المهنة، بل في الروح التي ترفض الهزيمة، فهذا «جاك ما» مؤسس موقع علي بابا كثيرا ما يروي كيف رفضته عشرات الشركات في بداياته، بما في ذلك كبرى الشركات مثل KFC، ، والأكثر دهشة أنه حتى جامعة هارفارد رفضته عدة مرات قبل أن يُصبح رمزا عالميا في عالم الأعمال والتكنولوجيا؛ هذا الرفض المتكرر لم يكسره، بل زاده تصميما وإصرارا على النجاح.
هؤلاء العظماء يذكّروننا بأن القيمة الحقيقية للإنجاز ليست في عدد المتابعين، بل في أثر الفكرة على الوعي الإنساني. وكما قال ألبرت أينشتاين:» ليس المهم أن تكون ناجحا، بل أن تكون ذا قيمة»؛ فالقيمة هي التي تمنح النجاح روحه، وتحوّل المعرفة إلى ضوءٍ يبدّد العتمة من حولنا ومن داخلنا في آنٍ واحد.
وفي زمنٍ صار فيه الهاتف الذكيّ مرآةً جديدة لذواتنا الصغيرة، يغرق فيه الملايين في تدفّق الصور والمقاطع، نعيش المفارقة التي وصفها الفيلسوف الكندي مارشال ماكلوهان حين قال إن كل تقنية تجمعنا وتفرّقنا في الوقت ذاته؛ فالتقنية التي قرّبت المسافات بين القارات، باعدت المسافة بين الإنسان وذاته، لقد صرنا نحيا في قرية ماكلوهان الكونية، كما تنبأ بذلك، لكننا في داخلها غرباء عن أنفسنا، نحمل في أيدينا أكثر أدوات الاتصال تطورا، بينما نفقد القدرة على الإصغاء إلى أبسط الأصوات فينا؛ صوت الوعي، وصوت القلب.
وحينما تم اعلان فوز فريد رامسديل بجائزة نوبل وهو منقطع عن الإنترنت، وهذه دلالة رمزية عميقة، نادرا ماتتكرر، لقد كان غائبا عن إشعارات العالم لكنه متصلا بالحياة، يخطو في الطبيعة كمن يعيد اكتشاف اللغة الأولى بين الإنسان والكون، فهو لم يكن في عزلة، بل في مصالحة مع الوجود، وكأن نوبل هذه المرة لم تُمنح لعالم في الطب فحسب، بل لإنسان تذكّر أن الشفاء يبدأ من صمته الداخلي.