تنقسم الناس في حياتهم الفكرية إلى أقسامٍ ثلاثة. قسمٌ مقلِّدٌ لغيره، متبعٌ له، جاعله المثل الأعلى في حياته، يدافع عنه، ويجعله قدوة له.
وقسمٌ آخر مجتهدٌ في فكره، حرٌّ في تصرفاته، يسير وفق ما يراه صوابًا، ويمشي على طريق قد رسمه لنفسه. أما القسم الثالث، فلا يعلم أين يقف؛ فتارةً يتبع غيره، وتارةً يرى في نفسه صاحب فكرة، لكنه متذبذب في حياته، ضائع الهدف في كلا الحالين.
ومن العادات القديمة التي ورثتها المجتمعات: الاقتداء والانصياع لأشخاصٍ يُخيَّل إليهم أنهم أصحاب كاريزما، يحملون أفكارًا مغرية في زمنها، لكن مع مرور الوقت، تتلاشى تلك الأفكار أو تتبدل، ويبقى التعلّق بالشخص قائمًا، حتى وإن تخلّى هو عن تلك الأفكار، فيتحول أتباعه إلى أسرى لانقيادهم له.
لكن هناك مصلحين لهم دور فعّال ومنجزون، غير أن تأثير هذه الشخصيات ينتهي عند حدٍّ معين من الفاعلية، وهنا لا بد من الانتقال إلى الفكرة نفسها، حتى لا تتوقف المسيرة بغيابهم أو تغير حالهم.
في العصر الحديث، نجد مثالًا لنيلسون مانديلا، الذي قاد حركة التحرر في جنوب أفريقيا. بعد خروجه من السجن وتوليه الرئاسة، استمرت الفكرة الأساسية للحرية والمساواة في مجتمعه، بينما حافظ الناس على احترامهم الكبير لشخصه، وهكذا يظهر بوضوح أن قيمة القدوة تكمن في الرسالة التي يتركها، وليس في شخصه وحده. ومن هذا المنطلق، لم تعد العادة القديمة في الاقتداء بالأشخاص الصرف صالحة في عصرنا الحاضر.
فالعقلاء اليوم تقودهم الفكرة، لا الشخص. وحينما تنتهي الفكرة أو تبلى، تأتي غيرها لتتقدم، فتقود من يؤمن بها على طريقٍ واضحٍ وممنهج.
الفرق بين الطريقتين واضح: اتباع الأشخاص يشيخ ويفقد أثره مع الزمن، بينما الأفكار تتجدد باستمرار، وتنشط معها العقول والقلوب التي تختار السير في ركابها.
وإذا لم يعد الاقتداء بالأشخاص نهجًا لدى العقلاء، فذلك لأن هذا الطريق لا يضخ الدماء النشطة في أي مجتمع، ولا يدفعه للتقدم مع مرور الزمن؛ إذ يتوقف عند حدود الشخص نفسه. أما الأفكار، فهي التي تُجدّد الأجيال، وتستقطب أشخاصًا جددًا، وتساعد في صياغة نظريات تدفع الناس للتطور في فكرهم وعلمهم.
abuhady.1@gmail.com