لم يعد الطعام فعلاً بيولوجياً بسيطاً أو طقساً اجتماعياً كما كان في الماضي، بل تحوّل في زمن «البلوغرز» إلى مسرح كبير للتفاهة، تُعرض عليه أطباق بلا روح وأذواق بلا ذاكرة وعقول بلا وعي. ما كان يوماً لحظة حميمة تربط الإنسان بالأرض والنار والماء صار اليوم مجرد مشهد عابر أمام كاميرا هاتف، يثير لعاب المتابعين أكثر مما يثير عقولهم.
ظاهرة «بلوغر الطعام» ليست بريئة كما تبدو، إنها واحدة من أكثر أشكال الانحدار الثقافي والإنساني خطورة. هؤلاء الذين يبتسمون أمام الأطباق ويطلقون كلمات من قبيل «خرافي، أسطوري ، لا يُقاوم» لا يصنعون محتوى ذوقياً بل يسهمون في إعادة برمجة علاقة الإنسان بالطعام، وتحويلها من تجربة وجودية إلى سلعة تسويقية. لقد انتقلنا من مرحلة «نأكل لنعيش» إلى مرحلة «نأكل ليُنظر إلينا» من البحث عن المذاق إلى مطاردة «الإعجابات»…!
في الماضي، كان الطبخ امتداداً للذاكرة الجماعية، يحمل بصمات الجدّات والأمهات ويعكس جغرافيا المكان وتاريخه وثقافته. أما اليوم، فلا يحمل الطبق إلا زاوية تصوير جيدة وإضاءة مناسبة. لم يعد الطعام يُطهى من أجل الجسد، بل يُصنع من أجل الشاشة. والمطعم لم يعد يتنافس بالجودة والمذاق، بل بقدرته على أن يكون خلفية جذابة لفيديو قصير لا يتجاوز ثلاثين ثانية.
وراء هذه الظاهرة صناعة كاملة تديرها شركات تسويق ومطاعم تبحث عن الشهرة بأي ثمن. يُدفع المال مقابل مديح مبالغ فيه، ويُهدد بالنقد مقابل الرفض. وهكذا يتحوّل «البلوغر» إلى أداة ابتزاز ناعمة، لا تختلف في حقيقتها عن أي سلاح دعائي. إنهم لا يروّجون للطعام، بل يروّجون لثقافة الاستهلاك المفرط، ويغذّون فينا شعوراً دائماً بالنقص: أنك لم تعش بعد لأنك لم تجرب هذا الطبق، وأن حياتك ناقصة لأنك لم تأكل ما أكلوه.
الأخطر من ذلك أن «بلوغر الطعام» يعيدون تشكيل مفهوم الجوع نفسه. الجوع لم يعد إشارة بيولوجية صادقة، بل استجابة مشروطة لما تمليه علينا الخوارزميات. لم نعد نأكل لأن أجسادنا تحتاج، بل لأن عقولنا تعرضت لغسيل ممنهج عبر مقاطع متتابعة تحاصرنا بالرغبة وتزرع فينا شهوة لا تهدأ. لقد تحوّل الجوع إلى سلعة، وصار يُباع ويُشترى مثل أي منتج آخر.
ولا يقتصر الخطر على الصحة الجسدية فقط، بل يمتد إلى الصحة العقلية والذوقية.
المائدة، التي كانت في السابق رمزاً للتلاقي الأسري والحوار الإنساني، أصبحت مسرحاً للانفصال الاجتماعي. يجلس الناس أمام أطباقهم ليس ليتبادلوا الحديث، بل ليلتقطوا الصور. لم تعد الوجبة تجمعهم، بل تُفرّقهم. وكل لقمة باتت جزءاً من عرضٍ افتراضي لا صلة له بالحياة الحقيقية. في هذا العالم المشوّه، يصبح الطعام أداة لتغذية الغرور لا لتغذية الجسد، وساحة لاستعراض الذات لا للاحتفاء بالحياة.
وإذا كان الطعام مرآةً للحضارة، فإن انعكاسه اليوم يُظهر وجهاً بشعاً : وجه حضارةٍ فقدت ذائقتها لأنّها فقدت قدرتها على التفكير. حضارةٍ ترى في اللقطة أهم من المذاق، وفي «الترند» أهم من القيمة، وفي التصفيق أهم من الحقيقة. ما يفعله «بلوغر الطعام» ليس ترفيهاً بريئاً، بل مساهمة صامتة في انهيار المعنى. إنهم يجرّدون الطعام من هويته ويختزلونه في صورة، ويجرّدون الإنسان من ذائقته ويختزلونه في معدة.
وفي النهاية، نحن لا نرى في هذه الظاهرة مجرد تسلية عابرة، بل علامة على مرضٍ حضاري عميق: حين يتحوّل احد مقومات الحياة «الأكل» إلى أداة تسطيح وتفاهة. حين تُختزل العلاقة بين الإنسان والطبيعة في «بوست» وحين تُقاس قيمة المذاق بعدد «الإعجابات» نكون قد بدأنا نأكل أنفسنا ونحن نظن أننا نأكل الطعام.
mohalarab75@gmail.com