تزايدت الأصوات التي تدعو إلى الاكتفاء بالذات، وأصبح السعي وراء الاستقلالية المطلقة والتخلي عن الناس رغبة مُلِحّة في زمننا الحاضر، اعتقادًا أنها السبيل للراحة والحرية، وأن وجود الناس في حياتنا يشكّل عائقًا في تحقيق أهدافنا والرفاهية المزعومة.
لا أدري من أين بدأت هذه الفكرة المروَّجة. ربما يراها البعض حكمة ناضجة بعد تجارب قاسية أو «استشفاء» من بعض المشاكل النفسية أو الاجتماعية، لكن عند التعمّق قليلًا نكتشف أنها وهم لا يصمد أمام حقيقة الحياة؛ فهي على المدى البعيد تحرم الإنسان من أحد أهم مصادر قوته: المجتمع.
الصورة غير المدركة هنا أن الإنسان في جوهره كائن اجتماعي، ووجوده مرتبط بالآخرين ارتباطًا وثيقًا. فلا تتحقق إنسانيته إلا من خلال تفاعله مع مجتمعه وعلاقاته بالناس من حوله. فمنذ لحظة ولادته وحتى وفاته، يظل محتاجًا ومعتمدًا على الآخرين. لا أحد يزرع غذاءه، ويصنع دواءه، ويبني بيته، ويُعلّم نفسه بمفرده. ولو حاول، لاحتاج إلى مهارات وموارد تتجاوز قدراته الفردية.
في عالم المشاريع والأعمال مثلًا، -وهو من أهم الركائز التي يقوم عليها الاقتصاد الذي يضمن حياتنا ورفاهيتها – نرى أن كل مشروع بلا استثناء، كبيرًا كان أو صغيرًا، ناجحًا أو حتى فاشلًا، لا يمكن أن يقوم إلا بالناس. المستثمر يحتاج إلى فريق، وصاحب المشروع يحتاج إلى موظفين، وأي سلعة أو خدمة تحتاج إلى مستهلكين. في النهاية، المستهلك هو «الناس»، وهو السبب الحقيقي والأساس الذي يمنح أي عمل قيمته وسبب وجوده.
وليس الاقتصاد وحده القائم على هذا المبدأ، بل الحياة بأكملها مبنية على شبكة بشرية مترابطة. إن التخلي عن الناس من حولنا يعني التخلي عن أساس وجودنا في الحياة.
والمقصود بـ»الحياة» هنا ليس مجرد البقاء الجسدي أو القدرة على النجاة، بل تجربة العيش بكل أبعادها.
فالمنفعة المتبادلة، والمسؤولية المشتركة، والتعاون والتضامن، والاحتفال والمشاركة، والدعم العاطفي والنفسي، والاستمرارية والبقاء، كلها ضرورات وجودية لا تتم إلا بالعلاقات البشرية. حتى الفشل ذاته يثبت حاجتنا للآخرين؛ فالإنسان عندما يسقط يحتاج إلى من يمد له يد العون، أو على الأقل إلى من يمنحه كلمة صادقة تعينه على النهوض من جديد. وهذا برهان كافٍ على أننا لا نعيش لأنفسنا فقط، بل من أجل بعضنا البعض. فالحياة نفسها لم تشهد إلى اليوم قصة نجاح كان بطلها الاستقلال المطلق.
باختصار، إن كان التخلي عن الناس سبيلًا للراحة كما يعتقد البعض، فالراحة لا تساوي الحياة، والنجاح لا يتحقق بجهد فرد واحد، والرفاهية لا تُبنى في العزلة.
وعن أي حرية تُدّعى إن كانت سجناً داخل حدود الذات؟
وليس الاقتصاد وحده القائم على هذا المبدأ، بل الحياة بأكملها مبنية على شبكة بشرية مترابطة