مرونة ساعات العمل..

تضع الدولة اليوم كفاءة الإنفاق في مقدمة أولوياتها، في وقت تتسارع فيه الحاجة لضبط المصروفات، وفتح آفاق جديدة للتوظيف أمام الشباب والشابات. ومع هذه المعادلة، تتكرر مشاهد الاستقالات المبكرة للموظفين والموظفات الذين يجدون أنفسهم بين مطرقة الالتزامات العائلية وسندان دوام كامل.
خيار بسيط يمكن أن يحدث فارقًا كبيرًا: السماح للموظف أو الموظفة بالتنازل عن جزء من راتبه أو مزاياه مقابل تقنين ساعات العمل. هذه ليست ميزة ترفيهية أو مطلبًا شخصيًا، بل سياسة إصلاحية قائمة على منطق اقتصادي واجتماعي سليم، وتُطبَّق في كثير من الدول المتقدمة ضمن إطار واضح يحفظ العدالة ويحقق الكفاءة.
كثير من الموظفين المقبلين على التقاعد لا يرغبون في الخروج المبكر من الخدمة، لكنهم لا يملكون الطاقة للاستمرار بذات السقف العالي من الالتزام. لماذا نضغطهم ليبقوا بكامل طاقتهم حتى آخر يوم، بينما يمكنهم أن يعملوا بساعات أقل مقابل راتب أقل، في مرحلة انتقالية تساعدهم على الاستعداد لما بعد التقاعد وتمنحهم وقتًا للاستمتاع بحياتهم دون أن يغادروا المنظومة كليًا؟
هذا الخيار يقدّم للدولة مكاسب مضاعفة. فهو أولًا يمنع نزيف الخبرات عبر الاستقالات والتقاعد المبكر، ويبقي الموظف ضمن المنظومة بمرونة محسوبة. وهو ثانيًا يتيح استخدام المبالغ المتنازل عنها في فتح فرص جزئية للشباب برواتب أقل.
المخاوف التي قد تثار حول التقاعد أو الالتزامات طويلة الأجل يمكن معالجتها بأبسط الطرق وأكثرها عدالة، عبر ما يُعرف بمبدأ “النسبة والتناسب” أو الـ Pro-rata -أي أن يحصل الموظف على راتب وبدلات واشتراكات تقاعدية متناسبة مع ساعات عمله الفعلية. فإذا عمل بنسبة 60% من الدوام الكامل، يتقاضى 60% من راتبه وبدلاته، ويساهم بـ 60% من الاشتراكات التقاعدية، ويُحتسب له التقاعد بذات النسبة. هذا النموذج مطبق في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية -OECD-، ونجح في تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات دون تحميل الخزينة أعباء إضافية غير ممولة.
على المستوى العالمي، لم تعد المرونة خيارًا هامشيًا، بل أصبحت حقًا مشروعًا. الاتحاد الأوروبي أقرّ حق طلب ترتيبات عمل مرنة للآباء والأمهات ومقدمي الرعاية، وهولندا وبريطانيا أقرتا حق العمل الجزئي بنسبة متفق عليها من ساعات الدوام. أما منظمة العمل الدولية فقد أوصت منذ سنوات بأن تكون المرونة وسيلة لتمكين المرأة وزيادة المشاركة الاقتصادية بدل أن يُدفع بها للخروج من سوق العمل.
من الناحية العملية، لا يخلو هذا التوجه من مخاطر إذا فُتح بلا ضوابط.. لكن الحلول واضحة ومجربة: ربط المرونة بمؤشرات أداء قابلة للقياس، تحديد سقف نسبي لعدد الموظفين في هذا الوضع داخل كل إدارة، مراجعة دورية كل ستة أشهر للتأكد من التزام الموظف بمهامه، ونص صريح على أن الميزة متاحة للرجال والنساء على حد سواء. الأهم من ذلك أن يبدأ البرنامج بشكل تجريبي في قطاعات محددة كالصحة أو التعليم، مع متابعة دقيقة للأثر المالي والتشغيلي قبل التوسع في التعميم.
الدوام المخفّض مقابل راتب أقل ليس رفاهية، بل استثمار ذكي. يحفظ رأس المال البشري من التسرب، يخلق فرصًا جديدة للشباب، يوازن بين العمل والحياة، ويمنح الموظف شعورًا بأنه شريك لا عبء. وفي النهاية، يبقى الإنسان السعودي هو الثروة الحقيقية التي تبنى عليها رؤية 2030، وكل سياسة تحافظ على صحته واستقراره ورضاه الوظيفي هي سياسة استثمار في المستقبل.
وكما قال سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان «حفظه الله»:
«طموحنا أن نبني وطنًا أكثر ازدهارًا، يجد فيه كل مواطن ما يتمناه».
dr0lamia@gmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *