في عمق الدراما السعودية المعاصرة، يفتح مسلسل «أمي» نافذة واسعة إلى أعماق النفس البشرية، حيث تتشابك العقد النفسية مع الصراعات الداخلية والخارجية، لتتشكل عبرها هوية الإنسان وعلاقاته بذاته والآخرين. يكشف العمل كيف أن لكل إنسان عقدًا كامنة تبقى كظل لا يفارقه، وإذا لم تُعالج هذه الجروح بوعي وشفاء، تتحول إلى أعباء عضوية تحفر في النفس وتسبب الألم، فتؤذي الذات وتجرح من حولها. وهذه العقد، كما يوضح المسلسل، تنبع في أغلبها من العنف الاجتماعي والأسري، لتكبر مع الوقت وتصبح كمرض مزمن يصعب الهروب منه، محكمة قبضتها على حياة الإنسان.
في هذا السياق، يُقدّم المسلسل قراءة إنسانية وفنية عميقة، تسرد قصة طفلة تغوص في بحر من الألم والمعاناة، وحياة امرأة تحاول إنقاذها من براثن العنف، بينما تسعى في الوقت ذاته لشفاء جروحها النفسية الخاصة. شخصية «مريم»، التي أبدعتها الفنانة العنود سعود، تمثل مركز هذه الرحلة النفسية المتقلبة، حيث تتراوح بين حلم الاستقلال والتحرر، وواقع الأمومة البديلة التي تمنحها دفءً جديدًا ومعنى مختلفًا لوجودها. برقتها وحيويتها، نجحت العنود في تجسيد التحولات العميقة لشخصية تعيش صراعات داخلية متشابكة، تجعل المشاهدين يعيشون معها كل لحظة، ويتعاطفون مع آلامها وأحلامها على حد سواء.
على الجانب الآخر، برز وجه الشر في شخصية «عبيد» التي أبدع في تجسيدها تركي اليوسف، الرجل الذي يمارس استغلاله بلا رحمة، غير مبالٍ ببراءة الطفلة «بسمة» التي تعاني تحت وطأته. وفي مقابل هذا الشر، تجسدت شخصية «سهام» بأداء مميز من رنا جبران، الأم المثقلة بالألم والاكتئاب، التي تظهر بوضوح الصراع النفسي بين القسوة والألم، وتكشف كيف يترك المجتمع بظلاله الثقيلة أثرًا نفسيًا عميقًا على الفرد، ما يجعل شخصية «سهام» متشابكة المشاعر، تتأرجح بين التعاطف والكراهية في نفس الوقت.
المسلسل لا يكتفي بالتركيز على الشخصيات فقط، بل ينسج خلفية اجتماعية واقعية نابضة بالحياة، من خلال تصوير أحياء الرياض القديمة، حيث البيوت البسيطة والشوارع الضيقة تنطق بتاريخ وحكايات الناس، وتقدم صورة حقيقية للمرأة السعودية الحنونة والفتاة الواعية التي تناضل من أجل مستقبل أفضل. ويأخذنا أيضًا إلى الطبيعة الساحرة في جيزان، بجمال جبالها وأجوائها الدافئة، حيث تضيف الخلفية الطبيعية بعدًا حيويًا للعمل، وتكشف عن كنوز المملكة الطبيعية الخلابة التي تفتح أبوابها لكل من يرغب في استكشافها.
ولا يغيب عن العمل بُعد الدولة والمؤسسات الحكومية التي تحرص على حماية الأطفال وحقوقهم، فتسليط الضوء على الإجراءات القانونية والاجتماعية التي تتبعها السعودية للتعامل مع قضايا العنف الأسري، يبرز في سرد المسلسل بشكل واضح.
في الوقت نفسه، يقدم المسلسل شبكة متكاملة من الشخصيات التي تشكل جسر الخير، مثل «مقرن»، والخالة «فاطمة»، والغريبة «نورة» المحامية، والصحفي «عامر»، و»مازن» و»بدرية»، الذين يمثلون الأمل والتغيير، ويضيئون دروب الألم والظلام بنور الرحمة والتسامح، ليؤكدوا أن في قلب المعاناة ينبض الأمل والإنسانية.
يحمل العمل توقيع الكاتب السعودي فاروق الشعيبي الذي أعاد صياغة السيناريو والحوار ليوازن بين الأصالة والحداثة، ويضفي على النص عمقًا إنسانيًا راقيًا. ويقود المخرج التركي جودت مرجان الإخراج، مقدّمًا مزجًا فنيًا بين الحس الدرامي التركي والواقع السعودي، حيث استطاع بمهارته تقديم عمل متجانس يحمل بصمة إبداعية قوية. وعلى صعيد التمثيل، ضم العمل مجموعة كبيرة من النجوم السعوديين والخليجيين، يتقدمهم الطفلة ترف العبيدي التي جسدت دور «بسمة» بإبداع خاص وحضور فني مميز، بالإضافة إلى العنود سعود، رنا جبران، تركي اليوسف، زهرة عرفات، سناء بكر يونس، نايف الظفيري، فايز بن جريس، ريم العلي، همس البندر، أسمهان توفيق، ليلى السلمان، لطيفة مجرن، نذير غليون، وعدد من ضيوف الشرف من بينهم عزيز بحيص وبدر محسن وغادة الملا وجبران الجبران.
أما الموسيقى التصويرية، فقد كانت نبضًا حيويًا رافق كل مشهد، مضيفة عمقًا عاطفيًا يثري التجربة الدرامية، ويجعل المشاهدين يغوصون أكثر في أجواء العمل.
في المحصلة، لا يُعد مسلسل «أمي» مجرد سرد لقصة طفل مضطرب أو عائلة متصدعة، بل هو تأمل إنساني عميق في أعماق النفس البشرية.
ayaamq222@gmail.com