النوم.. البوابة الخفية بين الحياة والموت

لماذا ننام؟ سؤال يبدو بسيطاً ، لكنه يفتح على أعمق أسرار الوجود. النوم ليس مجرد استراحة للجسد ولا توقف مؤقت للعقل، بل طقس غامض نمارسه جميعاً دون أن نملك له تفسيراً كاملاً..!
من منظور العلم، النوم ضرورة حيوية، به يعيد الدماغ ترتيب نفسه، يثبت الذكريات، ويطرد السموم التي تراكمت في خلاياه خلال ساعات اليقظة وهو لحظة إصلاح شامل، حيث تُرمم الأنسجة، ويستعيد الجهاز المناعي عافيته، وتُفرز الهرمونات التي تبقي الجسد متوازناً ، من دون النوم يختل التركيز، يضعف الإدراك، ويبدأ العقل في الانهيار التدريجي، حتى يصبح الإنسان مجرد جسد بلا بوصلة.
لكن النوم يتجاوز هذا الشرح البيولوجي الضيق ، إنه حالة وجودية تعكس ضعفنا العميق وحاجتنا إلى التسليم ، كل ليلة نخلع يقظتنا كما نخلع ثيابنا، ونسلم وعينا إلى ظلام يبتلعنا، وكأننا نتدرب يومياً على شكل من أشكال الموت، وحين نستيقظ، نعود وكأننا بُعثنا من جديد، محملين بأحلام قد لا نفهمها، لكنها تترك في داخلنا أثراً خفياً لا يُمحى. النوم إذن ليس تجديداً للجسد فقط، بل تجربة رمزية للفناء والبعث، تذكير بأن وعينا هش، وأننا لسنا سوى عابري طريق بين ليل ونهار.
الأحلام التي تسكن نومنا تزيد الأمر غموضاً، هي ليست مجرد صور عابرة، بل لغة سرية يتحدث بها العقل مع نفسه. أحياناً تكشف رغبات دفينة لم نجرؤ على الاعتراف بها، وأحياناً تعيد صياغة مخاوفنا في مشاهد سريالية، وأحياناً تفتح لنا أبواباً لعوالم لا نعرفها.
النوم أيضاً ملاذ نفسي، انسحاب من ضجيج العالم الخارجي إلى عمق الذات. حين نضع رؤوسنا على الوسادة، نعلن هدنة مع الحياة، ونسمح لذواتنا أن تستريح من صخب الأحداث والوجوه. إنه استراحة روحية لا تقل أهمية عن الاستراحة الجسدية، لحظة نغلق فيها أبواب العالم ونفتح باب الداخل، حتى لو كان ذلك الداخل متعباً أو مضطرباً ، وربما لهذا السبب، يصبح الأرق عذاباً يفوق الوصف، لأنه حرمان من الحق الطبيعي في العودة إلى الذات.
وإذا كان النوم شرطاً للحياة، فإنه أيضاً مرآة للحضارة. في عالمنا الحديث، صار النوم عملة نادرة، نؤجله أو نسرقه لنلاحق سرعة الأيام، وكأننا نعلن تمرداً على قوانين الطبيعة. لكن هذا التمرد قصير الأمد، لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش طويلاً وهو يرفض النوم. فكما يحتاج الجسد إلى الغذاء والماء، يحتاج العقل إلى الليل الذي يطفئ حرائقه.
النوم إذن ليس ضعفاً كما قد يتوهم البعض، بل حكمة بيولوجية وكونية. هو اعتراف بأن الكائن البشري لا يستطيع أن يحيا باليقظة وحدها. نحن مخلوقات من ليل ونهار، من وعي ولا وعي، من حياة ويشبهها موت صغير. النوم هو الجسر الذي يصل هذه الأضداد، الجسر الذي لا يمكن الاستغناء عنه مهما بلغنا من قوة أو غرور.
لذلك، حين نسأل لماذا ننام؟ ، فإننا في الحقيقة نسأل لماذا نحيا؟، النوم يذكرنا أن الحياة ليست خطاً مستقيماً من الوعي المتواصل، بل موجات مد وجزر بين حضور وغياب، بين يقظة وفناء مؤقت. هو البوابة الخفية التي نعبرها كل ليلة دون أن نفكر، ومع ذلك تظل أعظم أسرارنا اليومية.
mohalarab75@gmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *