التوازن العادل في الرعاية الصحية

حين نتحدث عن جودة الرعاية الصحية، غالبًا ما يتصدر المشهد صوت المريض وحقه المشروع في الخدمة الآمنة والرحيمة. لكن خلف هذا المشهد، يقف الممارس الصحي، الطبيب والممرضة والفني، كدعامة أساسية لأي نظام صحي. المريض لا يدخل العيادة ليقابل موظفًا روتينيًا، بل إنسانًا يضع علمه وخبرته وطاقته في خدمة الآخر. والسؤال هنا: كيف نضمن أن لا يتحول احترام حقوق المريض إلى عبء يثقل الطبيب حتى ينهكه، وأن لا يُترك الطبيب بلا حماية في مواجهة الضغوط والشكاوى الكيدية؟
خلال الأعوام الماضية، برز مؤشر “رضا المريض” كأحد أهم أدوات التقييم، حتى أصبح في بعض المؤسسات المعيار الأول وربما الأوحد. هذا التوجه – رغم إنسانيته – قد يتحول إلى سلاح ذي حدين. إذ لم يعد بعض المرضى يربطون الرضا بجودة العلاج أو النتائج الصحية وفق الإمكانيات والصلاحيات المتاحة، بل بمدى استجابة الطبيب لطلباتهم، حتى لو تعارضت مع العلم أو الأنظمة. وهنا يولد ما يعرف بـ «الطب الدفاعي»: ممارسات يلجأ إليها الطبيب لتجنب الشكوى أو اللوم، مثل طلب فحوصات وإجراءات غير ضرورية، أو منح إجازات مرضية بلا مبرر، أو الإحالة لمستويات أعلى بلا حاجة سريرية أو التخلص من المريض بنقل المخاطر لجهة أخرى.
دراسات عالمية أظهرت حجم هذه الظاهرة. ففي الولايات المتحدة قُدرت كلفة الطب الدفاعي بما يصل إلى 3% من الإنفاق الصحي، أي عشرات المليارات سنويًا. وفي دراسة منشورة في»JAMA» تبين أن 28٪ من الأوامر الطبية كانت دفاعية، لا سريرية. هذه الممارسات تستنزف الموارد، وتؤخر مواعيد من هم أحق بالعناية، وتزيد الأعباء المالية على النظام.
لكن الجانب الأخطر أن تتحول العلاقة بين المريض والطبيب إلى علاقة خصومة لا شراكة. حين يصبح «تفادي الشكوى» هو المحرك الأول، يضعف البعد الإنساني للرعاية، ويخسر المجتمع ثقة طالما كانت حجر الأساس في النظام الصحي.
وفي المقابل، يواجه الأطباء ضغوطًا أخرى لا تقل خطورة: الاعتداءات اللفظية والجسدية أو الشكاوى الكيدية. منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن أكثر من 80٪ من العاملين الصحيين عالميًا تعرضوا لشكل من أشكال العنف في أماكن عملهم. وفي السعودية، رُصدت حوادث متعددة استدعت من وزارة الصحة سنّ لوائح وتشديد العقوبات. غير أن المشكلة ليست في النصوص فقط، بل في تطبيقها بصرامة، وضمان أن يشعر الطبيب أن قراره العلمي محمي كما هو خاضع للمساءلة.
مع رؤية المملكة 2030 التي تضع صحة الإنسان في صدارة الأولويات، يصبح من المهم إيجاد حلول متوازنة. لا يُعقل أن يظل الممارس الصحي في موضع دفاع دائم، ولا أن يُترك المريض دون ضمانات لحقوقه. المطلوب أن تتكامل السياسات الوطنية لتفرز الشكاوى الجادة من الكيدية عبر لجان مستقلة، وأن يُعاد تصميم مؤشرات الأداء لتجمع بين رضا المريض والمخرجات الصحية الحقيقية، لا أن يطغى أحدها على الآخر.
إن حماية الممارس الصحي مسؤولية وطنية ومجتمعية وتشريعية. فحين نصون كرامته ونحمي قراره العلمي، نضمن في الوقت ذاته أن يحصل المريض على رعاية أكثر إنصافًا وإنسانية وجودة.
الطبيب ليس خصم المريض، بل شريكه الأول في رحلة الشفاء.
dr0lamia@gmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *