كنزنا المائي الوحيد المتاح لنا ولأجيالنا القادمة

في سن السادسة من عمري «1961»، بعيدا عن أمي، حملني أبي «رحمه الله» برفقته إلى المنطقة الشرقية، مدينة بقيق. كانت بداية رحلة عمر تحمل فلسفة، ورؤية «أب» تجاه ابنه البكر. التعليم ولا شيء غير التعليم لتحقيق مستقبل أفضل. كان والدي -رحمه الله- يدرك في حينه أن تعليمي استثمار استراتيجي بالنسبة لشخصه.
كانت بداية أشبه ببعثة دراسية. معها بدأت دراستي الابتدائية في ظل غياب المدرسة في قريتي بمنطقة الباحة. كان أبي موفقا في قراره، سابقا لعصره. كان يردد أمامي: العلم نور. قرار والدي سجل بداية رحلتي مع تعليم. رسخ في نهاية المطاف قضية المياه الجوفية في حياتي.
جعلني أبي أصغر عزوبي يعيش معتمدا على نفسه. بعيدا عن أمه التي كانت تمسح دمع معاناة الطفولة. لم يحرمني أبي من حنان أمي. لكنه عمل على زيادة مساحة دعائها لي بالتوفيق والنجاح منذ الصغر. أب عظيم. أم عظيمة. أبن عظيم بار، أنجز مهمته على أكمل وجه. أقولها بفخر وسعادة للمحبين.
في ذلك العمر الطري، وجدت الماء في مدينة بقيق يأتي الى السكن محمولا في أنابيب عبر «محابس» تسمح وتمنع نزول الماء، وتعجبت متسائلا. الماء متوفر ولا حاجة إلى حمله في قرب وأواني معدنية كما تفعل نساء قريتي. سجلت هذه الملاحظة في ذاكرتي المستدامة. مازلت استدعي مشاهدها. السؤال: لماذا استطعت تسجيلها بهذه القوة؟ كيف بقيت راسخة في ذهني؟ الأمر عندي إلهام ترسّخ بتوفيق الله.
تحمّلت لا حقا مسؤولية الدفاع عن المياه الجوفية من الاستنزاف الجائر. هكذا أعتقد بكل صراحة وشفافية. هكذا تشكلت بداية مسيرة قناعتي بأهمية المياه الجوفية دون علمي. هكذا قبل معرفتي بأنها مع ندرة موارد المياه الطبيعية في بلادنا حفظها الله، أصبحت كنزنا المائي الوحيد المتاح لنا ولأجيالنا القادمة.
بداية تم صنعها بقرار من والدي. أطلق لشخصي العنان حتى وصلت مرحلة الحصول على إجازة الدكتوراه، التي كانت عن مياه عيون واحة عيون الأحساء.
اسئلتي السابقة تؤكد بأن الملاحظة وتسجيلها وحفظها لاسترجاعها وقت الحاجة فراسة مطروحة أمام الجميع. لكن الفرق يأتي من أصحاب الشأن انفسهم. هناك من يطفئ نور الملاحظة. هناك من يستعمله في حينه. هناك من يحتفظ به وقت الحاجة. كان شخصي من النوع الأخير لحكمة أرادها الله لشخصي أن تكون.
في ذلك العمر الطري في بقيق وجدت «قربة» معلقة في أحد ممرات سكن موظفي ارامكو مملوءة بالماء، ومحشوة بزجاجات المشروبات الغازية. الهدف أن تكون باردة بفعل هبوب الهواء على سطح القربة.
إن إدارة الحياة في ظل معطيات واقعها جعلت العرب يتقنون فنون إدارة الماء. ذلك حدث حتى مع غياب الثلاجات الحالية. صورة أخرى سجلتها الذاكرة الطرية. استدعيها دوما مع غيرها لزيادة قوة عزمي وهمتي وتساؤلاتي الإيجابية تجاه المياه الجوفية.
دوما استدعي مشاهد حياتي مع الماء. منها مشهد تلك القربة.. ومشهد أول رؤيتي لمحابس الماء الحديدية في المنزل. أراها اليوم تؤكد لشخصي.. بأن توظيف الماء لخدمة الإنسان حق مشروع.. لكن تبديده، والاستهتار بأهميته، والإسراف في استعماله، يتحول إلى إفساد في ظل ندرته. تقول العرب: إذا زاد الشيء عن حده.. انقلب ضده. ويستمر الحديث.
mgh7m@yahoo.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *