حياتنا سلسلة من القرارات، بعضها صغير لا يكاد يُذكر، وبعضها كبير يغيّر مجرى العمر، لكن الغريب أن كثيرًا من هذه القرارات، حتى حين ندرك بوضوح أنها لم تكن صائبة، نظل متمسكين بها كأنها قدر لا يمكن تغييره.
والسؤال: لماذا نظل ماضين في طريق نعرف أنه ليس الأمثل؟ الجواب يكمن في أعماق النفس البشرية، حيث تختبئ مخاوفنا وتحيط بنا تحيزاتنا، لتجعل العقلانية شعارًا نرفعه لا منهجًا نعيشه. أول ما يجب فهمه هو أننا كائنات تبحث عن الأمان، والأمان بالنسبة لنا يعني الثبات. الاعتراف بأننا أخطأنا في قرار ما ليس أمرًا بسيطًا، لأن ذلك يهز الصورة التي رسمناها عن أنفسنا، فنخشى أن نبدو متقلبين أو ضعفاء أمام الآخرين وأمام ذواتنا. هذا الخوف يجعلنا نرتكب خطأ أكبر: الإصرار على مسار خاطئ لمجرد أننا بدأنا فيه. هنا يظهر ما يسميه علماء النفس بـ”مغالطة التكلفة الغارقة” «Sunk Cost Fallacy»، حيث نقول لأنفسنا: لقد أنفقت وقتًا وجهدًا ومالًا في هذا القرار، فلا يمكن أن أتركه الآن. كأن الماضي يفرض علينا رهينة للحاضر، مع أننا نعلم أن هذا الاستمرار لن يغير النتيجة، بل ربما يزيدها سوءًا. لكن القضية لا تتعلق فقط بالماضي، بل بالهوية. كثير من قراراتنا تتحول مع الوقت إلى جزء من شخصيتنا، كأنها علامة نُعرف بها، فنتشبث بها كي لا نشعر بأننا خنّا ذواتنا. وحين يقترح أحدهم أن نغير قرارنا، نسمعها كاتهام شخصي لا كنصيحة منطقية. الأمر أعقد مما يبدو، لأن هناك عنصرًا آخر يلعب دورًا حاسمًا: الخوف من المجهول. نحن، في معظم الأحوال، نفضل طريقًا مألوفًا حتى لو كان مليئًا بالحفر على طريق مجهول ربما يكون أفضل، لكن غموضه يخيفنا. هذه الطبيعة البشرية تجعلنا نتشبث بالسيئ الذي نعرفه بدلًا من الجيد الذي لا نعرفه.
يضاف إلى ذلك التحيزات المعرفية، وهي تلك الأخطاء الذهنية التي تجعلنا نرى العالم بشكل منحاز. مثلًا، إذا اتخذنا قرارًا خاطئًا، نميل إلى البحث عن أدلة تؤكد أنه صحيح، ونتجاهل كل ما يناقضه. هذا ما يسميه العلماء «التحيز التأكيدي»، وهو أشبه بفلتر ذهني لا يسمح إلا بما يدعم وجهة نظرنا. وفي وسط كل ذلك، يأتي الضغط الاجتماعي ليزيد الطين بلة. أحيانًا نبقى في زواج فاشل، أو وظيفة قاتلة للطموح، لا لأننا نحبها، بل لأننا نخشى سؤال الناس: لماذا تركت؟ ماذا سيقولون؟ فنضحي بحياتنا كي نحافظ على صورة أمام الآخرين. لكن ربما أغرب سبب يجعلنا عالقين في قرارات غير عقلانية هو الإدمان على الأمل.
نحن نحب أن نصدق أن الغد سيحمل المفاجأة، وأن كل ما عانيناه سيؤتي ثماره. لذلك نقول لأنفسنا: اصبر قليلًا، قد يحدث التغيير. ونظل ننتظر ذلك “القليل” حتى يلتهم سنواتنا. والحقيقة أن المشكلة ليست في اتخاذ قرار خاطئ، فكلنا نفعل ذلك، بل في عدم امتلاك الشجاعة لتغيير المسار حين نكتشف الخطأ. لو كنا أكثر صدقًا مع أنفسنا، وأقل خوفًا من اعتراف بسيط: «لقد كنت مخطئًا»، لأصبحنا أكثر حرية، وأكثر سعادة. لكن يبدو أن الإنسان يفضل أحيانًا أن يعيش في سجن قراراته، على أن يغامر بخطوة نحو المجهول، حتى لو كان وراء تلك الخطوة حياة أفضل.