التعليم والبناء القيمي للأفراد

بالأمس القريب عقدت جامعة أم القرى مؤتمر «مسؤولية الجامعات في تعزيز القيم والوعي الفكري» والذي يأتي ضمن اهتمام القيادة -أيدها الله تعالى – بالبناء القيمي للأفراد والمجتمع عبر سلسلة من الإجراءات التشريعية والتنظيمية والتنفيذية بمشاركة مختلف قطاعات الدولة ومؤسساتها العامة والخاصة وغير الربحية، إلا أن المسؤولية العظمى تقع على منظومة التعليم ابتداء بمقام الوزارة ومروراً بالمركز الوطني للمناهج والمعهد الوطني للتطوير المهني التعليمي وبمؤسساته التنفيذية من الجامعات والكليات التقنية والمدارس بمختلف فئاتها العمرية؛ لكون التعليم يمثل الركيزة الأساسية في بناء الإنسان وإعداده لمواجهة تحديات الحياة المختلفة، حيث لا يقتصر على تزويد المتعلم بالمعارف والمهارات العملية، بل يتعدى ذلك إلى تشكيل شخصيته وتكوين منظومته القيمية التي تحدد سلوكه وتوجه قراراته.
وفي ظل ما يشهده العالم من تحولات معرفية وثقافية متسارعة، تبرز الحاجة إلى تعليم يوازن بين التنمية العقلية وتنمية وتعزيز البناء القيمي، بما يضمن بناء أفراد قادرين على التفاعل الإيجابي مع مجتمعهم، والحفاظ على هويتهم، والمشاركة الفاعلة في مسيرة التنمية. ويتناول البناء القيمي تنمية وتعزيز القيم الوطنية كالانتماء والولاء والمسؤولية، والقيم الأخلاقية كالصدق والأمانة والعدل، والقيم الاجتماعية كالتعاون والإيثار، والقيم الإنسانية كالتسامح والرحمة والتعايش واحترام الآخرين. وينمي التعليم البناء القيمي للأفراد من خلال العناية بالمناهج الدراسية وذلك بمعالجة القيم بالمحتوى التعليمي بشكل صريح أو ضمني من خلال الصور والألوان والأنشطة الإثرائية وغيرها بحيث يتعلم المتعلم بأن المعرفة لا تنفصل عن المسؤولية الأخلاقية.
كما يؤدي المعلم دوراً مهماً ومحورياً في تنمية البناء القيمي وتعزيزه بوصفه أنموذجاً يُحتذى به، فالمعلم الملتزم بقيم الاحترام والعدالة والنزاهة يغرس تلك المبادئ عملياً في طلابه، كما تسهم الأنشطة التعليمية في البناء القيمي للأفراد وتعميقها من خلال النقاشات الهادفة، والمشاريع النوعية لتنمية القيم الأساسية وما يتفرع عنها من قيم فرعية كالتعاون، والحوار، والتفكير النقدي. وتسهم البيئة التعليمية والمدرسية في تعميق المفاهيم القيمية وترجمتها إلى ممارسات عملية، وتوجيه القوانين والأنظمة والانضباط في ترسيخ قيم الالتزام والمسؤولية.
ومما لا شك فيه أن الفرد الذي يتلقى تعليماً قائماً على القيم يتميز بقدرة أكبر على التوازن بين معارفه وسلوكياته. فهو لا يكتفي بالنجاح الأكاديمي، بل يمتلك القدرة على اتخاذ القرارات الأخلاقية الرشيدة، وممارسة المواطنة الفاعلة، والإسهام في بناء مجتمع متماسك يقوم على العدالة والاحترام، ومواجهة التحديات الفكرية والتقنية دون الانجراف وراء المؤثرات السلبية؛ لا سيما في ظل التغيرات المعاصرة والعولمة والتطورات التقنية المتسارعة والانفتاح على الثقافات المتعددة، وانتشار المعلومات غير الموثوقة، وتراجع بعض المرجعيات التقليدية، مما يؤكد الحاجة الماسة إلى تطوير المناهج لتكون أكثر انسجاماً مع القيم الإنسانية والوطنية، وتعزيز مهارات التفكير النقدي لدى المتعلم حتى يكون قادراً على التمييز بين ما هو نافع وما هو ضار، وإبراز الهوية الثقافية في سياق عالمي متغير، لضمان الحفاظ على الأصالة مع الانفتاح.
وأخيراً، فالتعليم يشكل عملية حضارية شاملة، لا تقتصر على إعداد الفرد لسوق العمل أو تنمية مهاراته المعرفية فقط، بل تمتد لتكون أساساً في بناء منظومة قيمية متماسكة توجه سلوكه وتمنحه المعنى.
فبقدر ما ينجح التعليم في غرس القيم، بقدر ما ينجح في بناء إنسان متوازن، قادر على الإبداع، ومؤهل للإسهام في نهضة مجتمعه. وعليه، فإن أي مشروع تعليمي معاصر يجب أن يضع البناء القيمي في صميم أهدافه، باعتباره الضمان الحقيقي لتحقيق التنمية المستدامة والنهضة الشاملة للأمة.
malwadai@kku.edu.sa

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *