لم يعد الاحتيال في زمننا الحديث مقتصرًا على سرقة الأموال أو تزوير الأوراق الرسمية، بل أصبح أكثر تعقيدًا حين ارتدى الأقنعة، وتحوّل إلى لعبة نفسية تستغل الإنسان في لحظة ضعفه. لم يعد الضحية دائمًا غريبًا يتلقى اتصالًا من رقم مجهول يدّعي أنه من البنك أو رسالة وهمية على البريد الإلكتروني تخبره بجائزة مالية، بل قد يكون الاحتيال أقرب مما نتخيل، أحيانًا من صديق أو قريب يعرف تفاصيل حياتك ويستغل ثقتك ليخلق شخصية موازية للسيطرة عليك والتحكم بك. وهنا يصبح الجرح مضاعفًا، ليس فقط خيانة للثقة، بل أيضًا خيانة للقرب.
لقد بات ما يعرف بتقمص الشخصيات أحد أخطر صور الاحتيال المعاصر. يقوم المحتال بابتكار هوية جديدة، أو حتى أكثر من هوية في آن واحد، ليُحكم السيطرة على مشاعر الضحية ويعيد تشكيل وعيه وفق ما يريد. وما يجعل الأمر أكثر إيلامًا أن هذه الشخصيات غالبًا ما تُفصَّل بدقة لتناسب نقاط ضعف الضحية وحاجاته النفسية أو العاطفية أو المادية، مستندة إلى معرفة عميقة بتفاصيله التي باح بها في لحظات اطمئنان سابقة.
القصص في هذا السياق كثيرة، بعضها ينتهي بخسارة مالية، وبعضها الآخر ينتهي بجروح نفسية لا تندمل.
في المملكة، ألقت الجهات الأمنية أكثر من مرة القبض على أشخاص استغلوا هويات مزيفة للإيقاع بضحاياهم عبر الإنترنت، مستخدمين الوهم العاطفي كوسيلة للاحتيال. وفي بريطانيا على سبيل المثال، وثّقت الشرطة مئات القضايا تحت مسمى «الاحتيال العاطفي» أو -romance fraud-، حيث يقع الضحية في فخ شخصية وهمية يظنها شريك حياته، ليكتشف لاحقًا أنه مجرد رقم في قائمة طويلة من ضحايا شخص محترف في الكذب والتمثيل.
الدوافع التي تقود هذا النوع من الاحتيال متعددة، منها الرغبة في السيطرة والتملك، إذ يجد بعض المحتالين متعة في أن يمسكوا بخيوط حياة الآخرين، ويشبعوا نزعتهم للهيمنة بابتكار أقنعة متعددة. ومنها الابتزاز المالي أو العاطفي، حين يستخدم المحتال المعلومات الشخصية أو الصور أو أسرار الحياة الخاصة كسلاح يساوم به ضحيته. ومنها ما هو أكثر خطورة، حين يصبح الخداع ذاته نوعًا من الإدمان النفسي، يعيشه المحتال كلعبة يتباهى بذكائه في إدارتها، غير آبه بما يتركه خلفه من ألم ودمار نفسي.
النتائج هنا لا تقاس بالمال وحده. الضحية يخرج في الغالب بصدمة عاطفية ونفسية تفقده الثقة بمن حوله، بل وبنفسه أحيانًا. كثير من الضحايا يدخلون في دوامة من القلق والاكتئاب بعد انكشاف الخداع، لأنهم لا يستوعبون كيف استطاع شخص قريب أو غريب أن يتقمص أكثر من شخصية ويقنعهم بها لفترة طويلة. وهناك من يتعرض لتدمير سمعته إذا استُغلت محادثاته أو صوره الخاصة بطريقة مشينة. وهنا تصبح الجريمة مضاعفة: جريمة في حق الفرد، وجريمة في حق المجتمع الذي يتآكل فيه رأس المال الاجتماعي القائم على الثقة.
ولأن هذه الظاهرة في ازدياد، فإن التعامل معها يتطلب وعيًا قانونيًا ومجتمعيًا في آن واحد. على المستوى القانوني، لا بد من توسيع نطاق الجرائم المعلوماتية ليشمل بوضوح جرائم الانتحال وتقمص الشخصيات، ليس فقط عندما يرتبط الأمر بسرقة مالية، بل أيضًا حين يتصل بابتزاز نفسي أو عاطفي أو تشويه سمعة. العقوبات يجب أن تكون صارمة، لأن الأذى النفسي لا يقل خطورة عن الأذى المادي.
أما على المستوى المجتمعي، فالوقاية تبدأ بالوعي. ينبغي أن يدرك الناس أن الاحتيال لم يعد يقتصر على رسائل مشبوهة أو روابط إلكترونية مزيفة، بل قد يأتي متنكرًا في قناع صديق مقرّب أو شريك عاطفي. وهنا يكون للمدارس والجامعات والإعلام دور أساسي في بناء هذا الوعي.
dr0lamia@gmail.com