في فضاءات الثقافة والفن، حيث يُفترض أن تنبض الكلمات بالحياة، وتكون نافذة ناظرة إلى جوهر الأعمال الفنية، نشاهد اليوم ظاهرة مؤسفة تجتاح صفحات كثيرة من عالم الكتابة عن المسلسلات والأفلام. ظاهرة لا تُقصر على سطحية الحديث، بل تتجاوز إلى حالة من التكرار، التمجيد المجاني، ونقص أدوات النقد الحقيقي، حتى أصبحنا نقرأ نصوصاً لا تملك سوى رداء المجاملة الخفيف، الذي يخفي ضعف الفهم والتناول.
لا يخفى على أحد أن العمل الفني، خصوصاً في عالم الدراما، ليس مجرد تتابع مشاهد أو حوارات تُلقى على الشاشة. هو بناء دقيق، ينبني على خطوط سردية متشابكة، شخصيات تتحرك بين دواخلها صراعات وأحلام، رؤى سينمائية تعبّر عن ثقافة وعصر. ولكن حين تأتي الكتابة النقدية على هذا العمل، نحتاج من الكاتب أن يكون قارئاً عميقاً، مفكراً دقيقاً، مدركاً لأدوات الفن من سيناريو وإخراج، تمثيل وإضاءة، موسيقى تصويرية، وحتى لغة الجسد والصمت.
للأسف، كثيرون ممن يشغلون صفحات الثقافة والفن اليوم يفتقرون إلى هذه الأسس. تقتصر كتاباتهم على سرد مبسط، أحياناً مكرر، لا يقدم تحليلاً يضيف للمشاهد أو القارئ فهمًا جديدًا. بل يصدر النص أحياناً وكأنه تقرير دعائي أكثر من كونه نقداً، يثني على العمل بلا تفريق بين نقاط القوة والضعف، وينسى أن النقد الحقيقي هو الذي يحفز صانع العمل على التطور، ويعمق تقدير الجمهور.
هذا الخلل له أبعاد متعددة. أولاً، ضعف الثقافة النقدية نفسها. فليس كل من يمتلك موهبة الكتابة يملك الحس الفني الكافي، أو المعرفة النظرية التي تؤهله للغوص في أعماق العمل الفني. ثانيًا، قد يكون هناك ضغوطات غير معلنة على بعض الكتّاب لكتابة مجاملات، خوفاً من إغضاب منتجين، مما ينعكس سلباً على موضوعية النصوص. النتيجة، أن الأعمال الفنية -خصوصاً تلك التي تحمل في طياتها عمقًا فكريًا وثقافيًا كبيرًا- لا تجد صوتًا يعكس جوهرها. أعمال تضيع بين سطور مقال لا يتجاوز مدحه العام أو سرد حكاية العمل بلا تحليل، فتتلاشى قيمتها الحقيقية في بحر من الكلمات الخاوية.
تخيل أن هناك مسلسلات عربية وخليجية متميزة، تتناول قضايا اجتماعية معقدة، تتعامل مع تاريخ أو هوية أو صراعات داخلية، لكن الكتابة عنها لم تأخذ الوقت الكافي لفك رموزها، ولم تُسلّط الأضواء على لغتها السينمائية أو تقنيات الإخراج، ولا على تطور الشخصيات الدرامي. هنا يصبح النقد واجباً إنسانياً وفنياً، ليعيد للعمل حقه في التقدير والتفاعل، ويعطي الجمهور فرصة التذوق الواعي.
كما أن ضعف النقد ليس فقط ضياعاً للعمل نفسه، بل ينعكس أيضاً على صناع الفن. فبدون وجود نقد موضوعي، صريح وبنّاء، يبقى صانع العمل محاصراً في دائرة التكرار، لا يدري أين الخطأ ولا أين التميز، فيفقد قدرته على التطور والتجديد، ويصبح الفن وكأنه يسير في مكانه.
الكتابة النقدية ليست سهلاً، بل هي فن بحد ذاته. تتطلب من الكاتب أن يكون قارئاً وفياً، ومؤرخاً للحركة الفنية، وناقداً موضوعياً يتعامل مع العمل بحب وصدق، لا بإنكار أو مجاملة. هي لغة تفتح آفاقاً، تحفر في التفاصيل الدقيقة التي لا يراها الجميع، تصنع جسوراً بين العمل والمشاهد، بين القصة والروح.
في هذا السياق، لا بد من التوقف عند أهمية التعليم والتدريب في بناء نقاد حقيقيين. فالمجتمع الثقافي يحتاج إلى مؤسسات تقدم برامج تعليمية متخصصة في النقد الفني، وورش عمل تحفز الشباب على فهم أعمق للمسرح والسينما والدراما. كما أن الصحافة الثقافية يجب أن تمنح مساحة للنقاد الذين يملكون رؤية وعمقاً، وتدعم حرية التعبير عن الرأي بصراحة بعيداً عن أي حسابات أخرى.
وأيضاً، لا يمكن تجاهل دور الجمهور. فمن خلال تنمية ذائقة المشاهد، وتعليمه أدوات القراءة النقدية، يمكن أن يصبح الناقد الحقيقي في قلب كل بيت، يطرح الأسئلة، يميز بين العمل الجيد والمتوسط، ويدعم ثقافة النقاش البناء حول الفن. لا يمكن للنقد الحقيقي أن يزهر وينمو في أرض خصبة إلا إذا توافرت له الرعاية والاهتمام المؤسسي. فالمشهد الثقافي لا ينتظر أن يُترك للمصادفة أو للاجتهادات الفردية التي قد تُغذي المجاملات، بل يحتاج إلى بناء جسور التواصل بين الفن والنقد.
حين تتدخل المؤسسات الرسمية، فإنها لا تقدم فقط الدعم المالي أو الإعلامي، بل تضع أسساً تعليمية وتدريبية، تنشئ منابر للنقاش الحر، وتشجع على صياغة نقد موضوعي وصريح. هذا التدخل الحكومي يُسهم في تشكيل جيل من النقاد الذين يحملون رؤية واضحة، ومدربون على قراءة الأعمال الفنية بكل أبعادها.وهو أيضاً وسيلة لتأسيس ثقافة نقدية صحيحة، تُخرج العمل الفني من قبضة المجاملات التي تخنقه، لتمنحه فرصة أن يكون حقيقياً، متكاملاً، يلامس وجدان المشاهد ويغذي فكره.
ayaamq222@gmail.com