كيف أصبحت السياحة صناعة وطنية في قلب المجتمع؟

2025، مجرد رحلة عابرة للاستجمام، بل كانت شهادة حية على تحول جذري تشهده جغرافيا السياحة الداخلية في المملكة العربية السعودية. فمن خلال جولتي في ثلاث من أبرز مقاصد المصيف والجمال الطبيعي، «أبها والباحة والطائف»، لمستُ نهضة سياحية شاملة. لم تكن لتتحقق لولا الرؤية الحكيمة والدعم غير المحدود من قيادة هذه البلاد التي جعلت من تنمية القطاع السياحي ركيزة أساسية في رؤية المملكة 2030.
لم يأتِ هذا التطور الذي يشهده القطاع السياحي من فراغ بل هو ثمرة تخطيط استراتيجي واضح وضعته القيادة الرشيدة حيث أولت الحكومة السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان «يحفظهما الله»، اهتماماً بالغاً بتنويع الاقتصاد الوطني. وتم تحديد السياحة كقطاع حيوي واعد ليس فقط لجذب سياح العالم بل لتعزيز مفهوم السياحة الداخلية أولاً وتشجيع المواطن على قضاء إجازته داخل وطنه والاستفادة من الطبيعة الخلابة والتراث الأصيل الذي تزخر به مناطق المملكة.وقد تجلى هذا الدعم في إنشاء وتطوير الهيئة السياحية السعودية ، التي عملت بجد على تمهير القطاع وتطوير البنية التحتية وتسهيل عمليات الاستثمار وتسويق المقاصد المحلية بشكل احترافي.
من خلال جولتي هذا العام، كان الفرق واضحاً وجلياً مقارنة بالسنوات السابقة حيث تجسد التطور في عدة محاور رئيسية: منها تنوع وكثرة المعالم السياحية حيث في أبها لم يعد الأمر مقتصراً على قمة السودة وقرية المفتاحة فقط، بل أصبح هناك متنزهات عائلية عديدة ومنظمة، ومسارح مفتوحة، وتلفريك يقدم إطلالات بانورامية مذهلة، بالإضافة إلى زيادة عدد المتاحف التراثية التي أصبحت منارات ثقافية.وفي الباحة تطورت مواقع مثل غابة رغدان وقرية ذي عين التراثية ومحافظة بلجرشي والمندق والمخواة لتصبح أماكن سياحية متكاملة، مع إضافة مسارات للمشي والهايكنغ معلمة وذات خدمات، ومنصات مشاهدة «Viewpoints» مصممة بأعلى المعايير.
وفي الطائف أصبح طريق الهدا والشفا أكثر من مجرد طريق جبلي، فهو الآن يحوي مجموعة من الحدائق الترفيهية، والأسواق الشعبية المنظمة، ومزارع يمكن زيارتها والاستمتاع بقطف المحاصيل الزراعية والتقاط الصور كالورود والفراولة والرمان والبرشومي.ومن حيث انتشار المطاعم والمقاهي والإطلالات، المشهد الأبرز الذي لا يمكن إغفاله هو الكثافة الكبيرة والتنوع المذهل في الخيارات الترفيهية والغذائية حيث انتشرت المقاهي ذات التصاميم العصرية والمطاعم التي تقدم أشهى المأكولات المحلية والعالمية في مواقع كانت قبل سنوات شبه خالية. أما «الأطلالات» فقد أصبحت علامة فارقة، حيث تم استغلال كل موقع مرتفع بطريقة إبداعية لإنشاء مقهى أو منصة تقدم مشهداً خلاباً للغروب والجبال، مما وفر تجربة فريدة للزوار.
وبالحديث عن دعم الأسر المنتجة وانتشار ثقافة «الفود ترك» أحد أبرز مظاهر النهضة الشعبية التي لفتت انتباهي الظاهرة الاستثمارية الجميلة لشباب وفتيات الوطن بانتشار عربات الطعام المتنقلة «الفود ترك» بشكل لافت. لم تكن هذه العربات مجرد أماكن لتقديم الطعام السريع بل أصبحت مشاريع صغيرة مبدعة تقدم تجربة طعام فريدة تتراوح بين الأطباق التراثية الأصيلة والمأكولات العالمية بمذاق محلي. هذا الانتشار الكبير هو دليل واضح على نجاح سياسات دعم المشاريع الصغيرة والأسر المنتجة حيث وفرت البلديات والجهات المعنية مساحات مخصصة ومشجعة لهذه المشاريع مما ساهم في إضفاء حيوية على الأجواء السياحية وخلق فرص عمل للشباب وإتاحة خيارات طعام متنوعة وبأسعار معقولة للزوار.
وشهدت هذه المدن طفرة حقيقية في بناء وتطوير الفنادق والمنتجعات والوحدات السكنية الفاخرة، التي تلبي كافة الأذواق والميزانيات. من الفنادق العالمية خمسة نجوم إلى الشقق الفندقية المخدومة والاستراحات العائلية والمنتجعات مما وفر خيارات إقامة متنوعة ساهمت في إطالة مدة بقاء السائح.هذا الزخم السياحي لم يكن ليحدث لولا تهيئة المناخ الاستثماري الجاذب. لاحظت وجود العشرات من المشاريع الصغيرة والمتوسطة الجديدة التي يملكها شباب وفتيات سعوديون، من متاجر الهدايا التذكارية والمشغولات اليدوية إلى المطاعم المتخصصة ومراكز تأجير المعدات السياحية. إن السياسات التمكينية وسهولة الحصول على التراخيص شجعت رواد الأعمال على خوض غمار الاستثمار السياحي، مما خلق حلقة تنموية من التطور وخلق فرص العمل.
وجدت بتجربتي في صيف 2025 خير دليل على أن الاستثمار في الإنسان والمكان يأتي بثماره. لقد نجحت قيادة المملكة في تحويل المدن السياحية إلى ورش عمل دائمة حيث تمتزج روعة الطبيعة وعراقة التراث مع رؤية عصرية وخدمات عالمية ويصبح أبناء البلد شركاء حقيقيين في هذه النهضة من خلال مشاريعهم الصغيرة المبدعة. هذا النجاح ليس نقطة نهاية بل هو محطة على طريق يجعل من المملكة واحدة من أبرز الوجهات السياحية في العالم ويجعل من سياحتها الداخلية نموذجاً ناجحاً للتنمية المستدامة الشاملة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *