تراه لوحده وتراها لوحدها ، ولكل منهما جوه الخاص الذي يشعر فيه بالدفء ، بعيدًا بعواطفه ومشاعره – لا بجسده – عن الآخر ، دفء لا تغذيه الماديات أو الكلمات أو السلوك ، دفء لا يمت بصلة لعالم الإنسان بكل ما فيه من واقعية وبشرية ، هو دفء إلكتروني جعلناه بديلاً للدفء البشري ، وأصبحنا نبحث عنه ونذوب فيه بشكل مفرط؛ حتى غدا مسرحًا لحياتنا ورغباتنا وربما لسعادتنا .
في غرفة واحدة ومساحة ضيقة يمسك كل منهما بهاتفه النقال ولا يدري عن الآخر ، يعيش حالة الدفء الإلكتروني ، هو هنا وهي هناك يتنقلان في مواقع الحياة الرقمية دونما إحساس بوجود الآخر ، حياتهما حياة المقاطع والمشاهد السريعة والمتنوعة .
البداية كانت في جزئية من الوقت ، ثم تحولت إلى كل الوقت بحياة ليست هي الحياة ، حياة يظللها دفء مسخ لا قيمة له ولا وزن ، ويكون مستهل الصدمة ضعف في الحوار وغياب متدرج للتفاهم ، بعدها يأتي الشعور بغربة الفكر ، ثم التباعد القلبي وصولًا إلى الفُرقة المطلقة .
واقع صنعناه بأيدينا وطبخناه على نار هادئة ، حتى احترقت مشاعرنا وماتت ، منحنا جُلَّ وقتنا لذلك الجهاز الضئيل الذي نشاهد من خلال برامجه كل الحياة باستثناء حياتنا ، وجعلناه القيد الذي يكبل قلوبنا ويقتل ذكرياتنا القديمة ويمنع تكوين ذكريات جديدة وحياة مشتركة ناجحة .
تبدأ المفاجأة بالظهور ، وتتشكل التساؤلات المتعددة وتكثر وتتعقد ، وأكبر تساؤل عندنا : لِـمَ حدث ما حدث ؟! هذا التساؤل هو قمة الهرم ، ولو نزلنا درجة فيه لعرفنا جزءًا من الإجابة ، ولو نزلنا درجات أكثر لعرفنا أكثر ، وهكذا حتى نصل إلى القاعدة ثم الأساس ، عند ذلك ستكتمل الإجابة وستتضح أمامنا .
إنّ استبدال دفئنا البشري بدفء إلكتروني ، والتعويل عليه بأنه السعادة التي ننشدها بعيدًا عن عالم الواقع بكل ما فيه لهو استبدال خاطئ وهش ، هذا الاستبدال هو الذي غير كل شيء ، فلا مشاعر عميقة بقيت ولا علاقة متماسكة ظلت ، ولا اهتمامات مشتركة ، ولا تقارب فكري .
فخ نُصب لنا من قبل من ابتكر هذه البرامج وتلك المقاطع ، أرادوا لنا أن نغوص في تلك الحياة بعمق مفتوح لا نهاية له ولا قعر ، وكلما حصلوا على الأموال من خلال استخدامنا لبرامجهم طالبوا بالمزيد، ولن يتوقفوا عن ذلك مهما دمروا من علاقاتنا وحياتنا ، هم يعملون بتؤدة وصبر كبيرين ونَفَسُهُم طويلٌ جدًّا ، يتدرجون معنا شيئًا فشيئًا ؛ حتى نصل إلى أن يكون ذلك الجهاز بما فيه من برامج ومقاطع جزءًا من أجسادنا لا يمكن الاستغناء عنه .
إنّ تدارك الأمر وعدم الوقوع في الفخ المنصوب لنا متاح وبين أيدينا إن نحن أحسسنا بالمشكلة وأسبابها ، ثم اجتهدنا في حلها قبل فوات الأوان ورحيل الشريك ، ولن يكون حينها لمفردة الندم بكافة مراتبها أي فعالية أو فائدة إلا زيادة في أوجاعنا وهمومنا وآلامنا .
قال أحدهم : ” أحيانًا الإهمال يجبرك عن الابتعاد رغم حبك الشديد بمن تحب ” .
عزيزي القارئ :
وضعت لك تحت المجهر عينة واحدة لعلاقة لها ثقلها وأهميتها في ميزان العلاقات الإنسانية ، وسأترك لك المساحة كاملة كي تختار من العينات الأخرى ذات العلاقات الإنسانية المتنوعة ؛ كي تتأملها بعينٍ فاحصة متعمقة ، وتسبر غورها ، ثم تحاول انتشالها بيدين حانيتين إلى أن تصل بها إلى شاطئ الدفء الإنساني البشري ؛ حيث هو الملاذ الآمن لها والحصن المنيع والمأوى الحقيقي ، بعيدًا عن دفء مزيف كاذب لا يقدم شئيًا سوى النخر والهدم لحياتنا الواقعية .