يختار الله للكثير من القضايا التي تحمل رسائل إنسانية أشخاصا لهم قدرة على تفعيل طاقاتهم التي أستودعها الله فيهم. طاقات مخزونة في كل البشر دون استثناء. قلّة منهم يفعلونها بشكل استثنائي. مع الماء «فقط» رأيت نفسي أحدهم. هكذا أعيش مع نفسي ومع الماء الذي تؤرقني ندرته بشكل استثنائي.
وفقني الله وهيأني للدفاع عن المخزون الاستراتيجي من المياه الجوفية في ظل ندرة المياه في بلدنا حفظه الله. اعتليت بهذه المياه شأنا وأهمية فأصبحت قضيتي في الحياة. هكذا أرى نفسي بكل ثقة وقناعة، واقتدار. ثلاثة عقود من الكتابة المتواصلة، والتفكير «اليومي» الذي لم ينقطع. يعززها إرادة تحدي زرعها بيتا تربيت فيه، وبيئة طبيعية واجتماعية احتضنت شخصي منذ الطفولة.
تعلمت.. وعلمي انجاز دولة وعطاء علم. بهذا العلم والعطاء أدركت عمق مشكلة «ندرة المياه» في بلدنا بمساحته التي تزيد عن «2» مليون كيلومتر مربع. فعّلت ما تعلمته، وترافعت بالرأي العلمي وكلمته، مدافعا عن هذه المياه الجوفية القابلة للنضوب دون تعويض. اعتبرت هذه المياه قضية ذات أبعاد إنسانية عظيمة. مسؤولية جعلتني أعمل بإتقان وبصيرة. أخلصت بشغف، وحب، وغيرة. لم تكن قضية الماء سهلة وخفيفة الحمل. لم تكن الطريق أمامي معبدة.
وجدت الكثير من المصالح مرتبطة بالماء، وهذا زاد ويزيد من بناء الحواجز أمامي. وجدت البعض بدلا من أن يكون هو في خدمة الماء، جعل الماء في خدمة مصالحه، وبأنظمة تساعد وتشرع استنزاف مخزون المياه الاستراتيجي في باطن الأرض دون مبالاة.
ورغم علمنا جميعا بندرة المياه الطبيعية في بلدنا سقاها الله. يكررون أمامي: اصرف ما في الجيب، يأتيك ما في الغيب. لا يعلمون أن هذا الغيب هو العطش الذي ستلاقيه أجيالنا القادمة، لا سمح الله، وفقا للمؤشرات.
تطلب الأمر من شخصي إرادة إصرار استثنائية، يدفع بها قوة هائلة من قلق ندرة المياه. أيقنت بأن القلق على الماء قلقا مشروعا. هذا جعلني أعيش في تحد عظيم العزم والمسؤولية. أصبحت حياتي العلمية مثابرة لا تكل ولا تمل لصالح الماء.
هكذا تجاوزت العقبات واختراق صنوف حواجزها. ونتيجة لذلك أصبح لقضية الماء في حياتي سيرة ذاتية. تصلح أن تكون رواية تحمل مشاهد ذات دروس وعبر. سردها يكشف كيف سخرني الله سبحانه لهذا الماء. آمنت بالماء قضية منذ طفولتي قبل بدء دراستي دون علمي. سرد معالمها جزء من نشر ثقافة وعي يعظم مسؤولية الجميع أمام ندرة المياه التي نعيش.
قبل الدراسة كطفل تلقيت أول لطمة حانية، من يد كلها عطف ومحبة. كانت «صفعة» تحذيرية بسبب الماء. لم أكترث بقليل من «ماء» كان محفوظا في وعاء معدني. دلقته على الأرض دون اكتراث. جاءت لطمة أمي التي تعبت في احضار هذا الماء من الوادي، في قربة من جلد ماعز تحملها على كتفها بعناء وجهد.
تلك اللطمة كانت بداية تاريخي مع الماء. بها أصبح لكل قطرة تحضرها أمي في قربتها قيمة وشأن ومنفعة. كان الماء من مهام النساء يحملنه إلى البيوت في أوعية وأواني من أماكن بعيدة. مع معاناتهن.. أصبح لكل قطرة ماء أهمية.. كبقية نعم الله السائدة في حضارة الرمق الأخير. ويستمر الحديث.
mgh7m@yahoo.com