في زمن كانت فيه الشاشات صغيرة، كانت القلوب كبيرة، وكانت لمة العائلة حول التلفاز لحظة مقدسة. لا يمكن أن أنسى مسلسل بيت الصغير، ذاك البيت الصغير بين المروج الخضراء، الذي لم يكن مجرد مكان للقاء القصص، بل كان ملاذًا لعالم يحمل في طياته قضايا اجتماعية بسيطة، لكنها عميقة في تأثيرها. من خلال حكاياته المتواضعة، كنا نعيش الصراعات العائلية، أحلام الطفولة، وتحديات الكبار، كل ذلك بروح البراءة والصدق، بعيدًا عن تعقيدات الإنتاج الحديث.
وفي مساء الجمعة، كانت الشاشات الصغيرة تجمعنا مجددًا لمشاهدة الأفلام الهندية التي ترسم لنا صراعات الخير والشر بوضوح بديع، حيث الشر يعيش في الجبال والمسارات المعقدة، والخير يستند على الصداقة والوفاء ليصون الآخرين. وبعد أذان العشاء، كانت المصارعة الحرة تملأ الأجواء، بينما نهمس نحن الصغار ضاحكين، نُذكر بأجسام الرجال المعضلة، ونلتقط بين الضربات الناعمة بأهداب مخدّتنا الصغيرة لمسة حب الأبوة الصارمة.
كانت تلك الليالي بمثابة مدرسة فنية تنبض بالحياة، تقدم لنا فنًا راقيًا متكاملاً في النص والسيناريو والمضمون، لم يكن مجرد عرض أو تسلية، بل تجربة تلامس وجداننا.
نحن الآن نفتقد كل تفاصيل المشاهدة، ليس فقط داخل القنوات، بل خارج الصالات، في البيوت وعلى الحوش. حيث كانت العيون معلقة على شاشة صغيرة، والناس مجتمعون فوق حصير بسيط، عند باب البيت المفتوح على الهواء، والقلوب متصلة، تنتظر كل مشهد، كل كلمة، وكأنها رسالة تنسج بيننا خيوطًا من دفء وصدق.
من يأتي معنا اليوم لنشاهد معًا تفاصيل جديدة عبر الشاشة؟ من يشاركنا ذاك الإحساس العميق الذي كان يجعل من المشاهدة احتفالًا صغيرًا بالحياة، وليس مجرد تمرير وقت؟
من ينسى ليالي الحلمية؟ ذاك العمل الذي كان أكثر من مجرد مسلسل، كان رحلة عبر زمن وأحداث مجتمع كامل، يعكس آماله وأحزانه، ويرسم شخصيات تتنفس وتتحرك في فضاء سردي متين. أو رأفت الهجان، الذي جمع بين الدراما والتاريخ السياسي، ليقدم سردًا مشوقًا يرتكز على الواقع، ويثير الفكر.
وكذا أسيرة طه حسين، التي حملت لنا قصة نضال الفكر وقوة الإرادة، قصة تتحدى الصعاب من أجل الحق والكرامة، ومسلسلات أخرى مثل دموع في عيون وقحة التي تطرقت للقضايا الاجتماعية بأسلوب إنساني مؤثر، وليالي الصالحية التي حكت حكايات الحياة الشعبية بأبعادها الإنسانية والاجتماعية.
في تلك الفترة، كان العمل الفني متكامل الأركان: النص كان قائمًا على فكرة واضحة ومهمة، السيناريو كان ينسج الأحداث بسلاسة، والأداء التمثيلي كان ينقل المشاعر بصدق واحترافية. وهذا كله كان سببًا في أن تتحول تلك الأعمال إلى علامات في ذاكرة الفن المصري والعربي.
اليوم، مع كثرة القنوات وتدفق الإنتاجات، غابت هذه الروح عن الشاشات. غاب المضمون، وتلاشت جماليات النص والسيناريو، وصار المشاهد يبحث عن فن يُشبع روحه، لا مجرد صور عابرة. لقد فقدنا تلك اللمّة التي كانت تجعل من الشاشة الصغيرة نافذة على دفء العائلة وقيم الجمال والإنسانية.
هل نستطيع أن نعود إلى زمن كانت فيه المسلسلات فنًا بحد ذاته؟ زمن كانت فيه كل كلمة تُقال بحرص، وكل مشهد يُبنى بدقة، وكل شخصية تُصاغ بعمق؟ زمن كنا ننتظر فيه كل حلقة بشغف لأننا نعرف أننا أمام تجربة فنية تستحق أن نعيشها؟
في النهاية، يبقى الحنين حيًا لمن صنعوا لنا ذلك الفن، ولشاشات صغيرة علمتنا كيف نحب، كيف نتعلم، وكيف نحتفي بالإنسانية من خلال قصص تنبض بالجمال والقيمة.
ayaamq222@gmail.com