فرصة

الفرصة ليست شيئًا ملموسًا نُمسك به، بل هي حالة ذهنية، لحظة خاطفة، أو موقف يحمل بين طياته إمكانية التغيير أو النمو أو الإدراك. في كثير من الأحيان نطلب من الله أشياء عظيمة: نطلب الحكمة، فيأتينا موقف يتطلب اتخاذ قرار صعب؛ نطلب الصبر، فنُختبر في ظروف مرهقة؛ نطلب الشجاعة، فلا تُغرس الشجاعة مباشرة في قلوبنا، بل نُوضع في مواقف نضطر فيها أن نكون شجعان. وهنا يكمن جوهر الفهم الحقيقي للفرصة.
الفكرة العميقة أن الله، في كثير من الأحيان، لا يعطينا ما نطلبه بشكل مباشر، بل يمنحنا الفرصة لتكوين ما نحتاجه بأنفسنا. هو لا يزرع فينا الصفة جاهزة، بل يفتح لنا الباب لننميها عبر التجربة والاختيار. من يطلب القوة قد يواجه ضغوطًا كبيرة تفرض عليه أن يقف، أن يصمد، أن يكتشف كم هو أقوى مما كان يظن. ومن يطلب الحب، قد يُمنح فرصة للعطاء أولًا، ليجد أن الحب لا يأتي كهدية جاهزة بل كثمار لعلاقة تُبنى بالصبر والرعاية.
إن الفرصة أحيانًا ترتدي قناع الصعوبة، أو تأتي في هيئة خسارة، أو تبدو لنا كعقبة في الطريق. لكن جوهرها أنها “إمكان”، احتمال مفتوح، يضعك في مواجهة مع نفسك: هل سترى في هذا الموقف عبئًا، أم بوابة؟ هل ستنتظر المعجزة، أم تتحول أنت إلى المعجزة؟ كثيرون يمرّون على نفس الفرصة، لكن ليس كلهم يراها، أو يستثمرها. لأن الفرصة لا تصرخ، بل تهمس. لا تنتظر، بل تمرّ سريعًا. وهي لا تُنقَض فقط بالاجتهاد، بل أولًا بالإدراك.
ولكي نفهم الفرصة، يجب أن نغير نظرتنا للحياة من منطق «المكافآت الجاهزة» إلى منطق «المسؤولية والنية والوعي». من ينتظر أن تُلقى عليه الشجاعة من السماء، لن يشعر بها حين يحين وقت استخدامها. أما من يفهم أن عليه أن «يكون» شجاعًا، سيتعامل مع الخوف على أنه مختبر، وكل موقف صعب على أنه ساحة تدريب. الشجاعة هنا ليست شعورًا بالراحة، بل قرار بالمواجهة. وكذلك النجاح، لا يأتي صدفة، بل كاستجابة لعشرات الفرص الصغيرة التي اقتنصها الإنسان عندما لم يكن أحد يراه.
التعامل مع الفرصة يتطلب أولًا وعيًا. أن تفتح عينيك، أن تطرح على نفسك: هل ما أواجهه الآن فرصة للتطور، للتغيير، للتعلم؟ ثم يأتي القرار: هل سأغامر؟ هل سأخرج من منطقتي الآمنة؟ ثم يأتي الفعل: أن تمشي في الطريق رغم الشك، أن تتعلم من الفشل، أن تعود للمحاولة لا لأنك متأكد من النجاح، بل لأنك تحترم الفرصة.
وبين الوعي والفعل، يكمن الإيمان. الإيمان بأن الحياة ليست عشوائية، وأن في كل لحظة قد تكون فرصة نضج أو إنقاذ أو انطلاق. وهذا الإيمان لا يُبنى على التمني، بل على تجربة متكررة مع الفرص: تسقط، وتنهض، وتدرك بعد وقت أن كل سقوط كان فرصة لرؤية العالم من زاوية أخرى.
في النهاية، يمكن القول إن الحياة لا تُقاس بعدد الفرص التي أتتك، بل بعدد الفرص التي «كنت أنتَ مستعدًا لرؤيتها والارتقاء بها». والفرصة الحقيقية ليست فقط ما يفتح لك بابًا خارجيًا، بل ما يفتح في داخلك فهمًا جديدًا لنفسك. لذا، عندما تطلب من الله أن يعطيك شيئًا، انتبه جيدًا: قد لا يعطيك الشيء، بل يعطيك الفرصة لتصبح أنت هذا الشيء.
ahmadsinky@hotmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *