مريم «العظيمة». كيف أضعك في لغتي؟ كيف أختزل كل ما كنت عليه في نعي لا يتجاوز سطرين؟
كيف يمرّ من كان يقيننا الأول للحنان؟ وهل يمرّ فعلاً؟
ليس الموت ما يفجّعنا، بل ذاك الصمت الذي يتسلّل رقيقًا بين زوايا الروح، ويُبدّل أركان الحياة.
حين غابت مريم «زوجة خالي» شعرت بأن شيئًا في داخلي انكسر بلا صوت.
التفاصيل الصغيرة التي لم أنتبه لها يومًا، صارت فجأة شاهدة على فراغ لا يُملأ.
في مجلس العزاء، سمعت الغرباء – أولئك الذين لا يجاملون – يصفونها بالكلمات التي كنت أحتفظ بها منذ طفولتي: الطيبة، النقاء، واللطف العميق الذي لا يطلب مقابلًا.
أدركت أن بعض الأرواح تُربّي فينا المعنى، وتشكّل وعينا الأول عن النبل، وتظل تفعل ذلك حتى وهي ترحل.
منذ طفولتي، كنت أؤمن بأن الفرح موقف فلسفي، مقاومة ناعمة ضد فوضى العالم.
لكن ماذا نفعل حين يُغيّب عنا من كان هو الفرح ذاته؟ كيف نستمر في الدعوة للبهجة ونحن نبحث عن مفردة واحدة تليق بمن كانت البهجة تمشي على قدمين؟
ظللتُ لوقت طويل أعتقد – بوهم نبيل- أنني أستطيع إنقاذ من أحبّ، قادرة على إعادة الطمأنينة لقلوبهم، ما دمت أعمل في مركز لعلاج القلب.
كأن القرب من أجهزة التشخيص والعلاج منحني إحساسًا زائفًا بالتحكّم.
لكنني وقفت أمام مريم، ساكنة، وقد فارقت الحياة.
تأملتها ميتة، وأنا التي قضيت عمري أبحث عن طرق للإنقاذ.. ثم أدركت:
لا طبّ يُجبر كسر الروح حين تنكسر أمام من تحب.
تذكرت رثاء البارودي لوالدته:
وَقَدْ كُنْتُ أَخْشَى أَنْ أَرَاكِ سَقِيمَةً .. فَكَيْفَ وَقَدْ أَصْبَحْتِ فِي التُّرْبِ أَعْظُمَا
كتبت كثيرًا عن الفرح. علّمت نفسي والآخرين أن نحتفل بالحياة، ولو من ثقوب الحزن.
وها أنا الآن، أكتب عن مريم، لا لأرثيها، بل لأقول:
إننا سنكمل الطريق الذي رسمته، سنمشي في أثر النور الذي تركتِه فينا، ونخبر العالم: مرّت هنا امرأة كانت اسمًا آخر للرحمة.
وأجدني مرة أخرى أستعير من البارودي وجعه، فبعض الرثاء لا يُكتب، بل يُتوارث بين الموجوعين:
سَقَتْكِ يَدُ الرِّضْوَانِ كَأْسَ كَرَامَةٍ
مِنَ الْكَوْثَرِ الْفَيَّاضِ مَعْسُولَةَ اللَّمَى
عَلَيْكِ سَلامٌ لا لِقَاءَةَ بَعْدَهُ
إِلَى الْحَشْرِ إِذْ يَلْقَى الأَخِيرُ الْمُقَدَّمَ
raedaalsaba@gmail.com