الصداقة والبرجماتية

منذ الصغر ونحن نردد المثل المشهور: الصديق وقت الضيق. وحين ننظر إلى الواقع نجد أن الأصحاب من حولنا كُثر، ولكن الأصدقاء هم القلة، وهذا هو أمر طبيعي، فليست المسألة بكثرة الخلان، ولكن بالنوعية والجودة المنتقاة.
ففي أوقات الأزمات يظهر الصديق جليا، ويتساقط البقية كأوراق الخريف. فصداقة المنفعة والمصالح هي «برجماتية» ولا أظنها تُعمّر طويلا. والشاعر يقول: رأيتُ الناس قد مالوا، إلى من عنده مال، ومن لا عنده مال، فعنه الناس قد مالو.
ونتحدث عن هذا الموضوع لأن يوم 30 يوليو المنصرم صادف «اليوم الدولي للصداقة»، وقد خصصت له هيئة الأمم يوما عالميا في تقويمها الدولي. وكل شخص منا لا يخلو من صديق واحد على الأقل من المقربين.
ولا بد من القول أن الصداقة لا تأتي ببن عشية وضحها، بل هي تراكمات لسنوات من مواقف وأحداث وتجارب شتى. ومن المدهش حقا أن هيئة الأمم تحدث عن هذا اليوم العالمي بأسلوب أدبي! فقالت: «في زمنٍ يعلو فيه ضجيج الانقسامات، وتُسعر فيه الحروب ونيران النزاعات، وتتعمق فيه التفاوتات، ويشتد هاجس الخوف، تغدو الصداقة في بساطتها فعلا استثنائيا أصيلا. فهي لا تنزل بيننا بقرع الطبول، ولا تأتي مصحوبة بسياسات، ولا حاجة بها إلى خطب أو توثيقات. بل هي تنشأ في هدوء: من حوارٍ صادق، أو لحظةٍ صفاء وسمو نتشاركها».
ولعل أنفس من تحدث عن الصداقة من أئمة الأدب هو الجاحظ، فقد وصفها بقوله: «فلا تكونن لشيءٍ مما في يدك أشد ضناً، ولا عليه أشد حدباً، منك بالأخ الذي قد بلوته في السراء والضراء، فعرفت مذاهبه وخبرت شيمه، وصح لك غيبه، وسلمت لك ناحيته، فإنما هو شقيق روحك وباب الروح إلى حياتك، ومستمد رأيك وتوأم عقلك.. فإذا صفا لك أخٌ فكن به أشد ضناً منك بنفائس أموالك، ثم لا يزهدنك فيه أن ترى منه خلقاً أو خلقين تكرههما، فإن نفسك التي هي أخص النفوس بك لا تعطيك المقادة في كل ما تريد، فكيف بنفس غيرك».
والواقع أن أفضل ما في الصداقة هو البساطة والصراحة، والبعد عن التكلف. فالكلفة والمجاملة مع الصديق المقرب تدل على الحواجز النفسية والمعنوية، وكما روي عن الإمام الشافعي أنه قال: إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا فدعه ولا تكثر عليه التأسفا.
وأعتقد أن أعظم وأنقى صداقة كانت بين الرسول -عليه الصلاة والسلام- وبين أبوبكر الصديق -رضي الله عنه- ويكفي دلالة على ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام-: «هل أنتم تاركو لي صاحبي، هل أنتم تاركو لي صاحبي، إني قلت: يا أيها الناس، إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت».
وصحيح أن مقاييس الصداقة قد تختلف في بعض الثقافات والأيديولوجيات، ولكن جاء في القرآن الكريم ذكر «الصديق الحميم»، حيث قال قتادة: يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحا نفع، وأن الحميم إذا كان صالحا شفع. وقال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: عليكم بالإخوان فإنهم عدة الدنيا وعدة الآخرة.
وإن أردتم الصراحة والوضوح، فإن أفضل مقياس للصداقة في قوله سبحانه وتعالى: «الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين».
abdullahalghannam@hotmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *