لا يمكن أن تتعامل تحليلا مع اقتصاد أي دولة، دون الأخذ بعين الاعتبار كافة الجوانب والعوامل الأخرى المؤثرة في هذا الاقتصاد، سواء سياسية أمنية أجغرافية وبطبيعة الحال جيوسياسية، وبربط هذه المؤثرات وبشكل مباشر في الوضع العام لاقتصاد المملكة العربية السعودية خلال الربع قرن الأخيرة، سنجد أن المفصل الزمني التنفيذي لرؤية المملكة 2030، جعلت ما قبلها امر، وما بعدها امر أخر، قد يكون مكملا، قد يكون مختلفا، قد يكون موازيا، لكن ليس نفس الحال، فما قبل الرؤية كان الاعتماد الكلي على عائدات البترول، أو ما يجوز تسميته هيمنة إيرادات النفط وسيطرتها، وما بعد الرؤية بدأنا نعمل ضمن سياسة إنهاء هذه الهيمنة، وتحقيق عائدات وإيرادات غير نفطية، والأمر ليس سهل أبدا، ولكن يمكن تلخيص ما حدث في الخمس سنوات الأخيرة بأن بناء الرؤية 2030 وتحديد أهدافها ودخولها حيز التنفيذ، جعل من التنفيذ نفسه مرجعا أساسيا للتعديل والتصويب، أو ما يسمى اصطلاحا التغذية العكسية الراجعة «Feed Back».المؤسسة الاقتصادية السعودية ومنذ انطلاق الرؤية، وهي تعمل على بناء اقتصاد قوي متنوع يحقق الاستدامة، عملية إعادة البناء احتاجت الى عملية أخرى موازية لها، وهي عملية إعادة تعريف الاقتصاد نفسه، خاصة وان الاقتصاد السعودي في الخمس سنوات الماضية، يشهد تحولاً عميقًا يتجاوز مفاهيم إعادة الهيكلة والتنويع، ليصل إلى مستوى إعادة تعريف المنظومة الاقتصادية برمتها، فمع دخول العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، أصبحت المملكة تسير بخطى متسارعة نحو بناء اقتصاد إنتاجي معرفي وتنافسي، يرتكز على الإنسان والتقنية، لا على الموارد التقليدية وحدها، إعادة البناء والتعريف تتم وفق رؤية شاملة تتجسد في روح وجوهر رؤية السعودية ويدعمه زخم استثماري وتشريعي غير مسبوق، يتمحور حول ثلاثة محركات رئيسية: الاقتصاد الرقمي في العام 2030، نمية الكفاءات الوطنية، وتطوير (توطين) الصناعات النوعية.
ولنبدأ بالاقتصاد الرقمي، حين بدأت الرؤية مراحل تنفيذها، كنا نعمل على تأسيس البنية التحتية اللازمة للاقتصاد الرقمي، ولكن اليوم وفي فترة زمنية قياسية، يمكن الجزم بأن المملكة تجاوزت مرحلة تأسيس البنية التحتية، إلى خلق منظومة اقتصادية جديدة قائمة على البيانات والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، خاصة وان الاستثمارات الكبرى في هذه المجالات تأتي مدفوعة برؤية واضحة، العمل الآن قائم من أجل تحويل التقنية من أدوات مساندة إلى مصادر خلق القيمة، من البنية إلى القيمة، إن مراحل التحول الرقمي نتائجها بدأت تظهر بالفعل، وبدأنا نلمس تسارع في نمو الشركات الناشئة وارتفاع في كفاءة الخدمات، وتكامل متزايد بين القطاعات التقليدية والرقمية، في الخمس سنوات القادمة، نتوقع أن يسهم الاقتصاد الرقمي بنسبة تتجاوز 20% من الناتج المحلي.
المحرك الرئيسي الثاني هو رأس المال الأهم: الكفاءات البشرية، نحن في المملكة نعي جيدا أن الاقتصاد الحديث يعتمد بدرجة أولى على نوعية الكفاءات، وليس على حجم الموارد، حيث نتجه حاليًا نحو تأهيل جيل جديد من المتخصصين في مجالات التقنية والتحليل والقيادة، مع التركيز على المهارات المرتبطة بالاقتصاد الرقمي والابتكار، العمل على هذا المحرك بدأ من اليوم الأول في مسيرة تنفيذ رؤية 2030، واللافت اليوم أن هذه الكفاءات الوطنية التي تم الاستثمار بها من ساعة الصفر، قد بدأت تتولى أدوارًا قيادية في مشاريع استراتيجية، وتساهم فعليًا في تنفيذ الخطط الوطنية، وهذا مؤشر على أن الاستثمار في الإنسان ليس شعارًا، بل توجه فعلي يتم تتبعه بالبرامج والتمكين والتقييم المستمر، وطبعا نحن أيضا نعلم في المملكة، أن الكفاءات البشرية كرأس مال هو الأهم، لها ارتباطات مباشرة بالبيئة المجتمعية، وهذا يأخذنا في مقالات قادمة إن شاء الله، الى تناول أهمية الطبقة الوسطى الحيوية الإنتاجية في الدولة.
المحرك الثالث والأخير، هو المحرك الصناعي، ولكن الحديث يرتكز على مفهوم الصناعات النوعية، وكلمة نوعية وان كانت فضفاضة قد تحتاج الى تحديدات وتعريفات مستقبلا، لكن يمكن الوصف اختصار بأنها الصناعات التي لم يكن يعتمد عليها سابقا لتحقيق حجم إيرادات عالي، سواء كان عدم الاعتماد بوجودها ضمن اطار ضيق صغير، أو غير موجودة أساسا، المملكة شهدت تحولات هيكلية في صناعتها، من التركيز على تصدير المواد الخام، إلى تصنيع ذي قيمة مضافة، وتشمل هذه التحولات قطاعات واعدة مثل الصناعات الدفاعية، الطاقة المتجددة، الصناعات الدوائية، والتعدين المتقدم، المفارقة أن المملكة لا تتوسع فقط في هذه القطاعات، بل تُعيد تصميمها بأسس تعتمد على الكفاءة، التقنية، والاستدامة، وهذا ما يعزز موقع السعودية كمُنتج صناعي منافس على المستوى الإقليمي والدولي، لا كمجرد مصدر تقليدي.
بقية أن نشير بشكل ملحوظ الى امر مهم جدا، هو الأمر المغذي الرئيسي والمحقق الفعلي لعملية الاستدامة للمحركات الثلاث التي ذكرنها العلاه، وهو التعليم بكافة مراحله النوعية والعمرية، لأنه بكل واقعية، التعليم يجب معاملته على أنه رافعة اقتصادية، مما يلزم المزيد من عمليات الإصلاح والتطوير، فهو يشكّل حجر الزاوية في التحول الاقتصادي، وفعلا المملكة تمضي في مراجعة جذرية للمناهج، وآليات التدريس، وربط التعليم بسوق العمل، الجامعات السعودية تتجه نحو نموذج «الجامعات المنتجة»، فيما تتوسع البرامج التقنية والمهنية لتلبية احتياجات المستقبل، والهدف واضح يرتكز على إعداد كوادر قادرة على توليد الحلول، وتحقيق قيمة اقتصادية مباشرة، وليس فقط الحصول على وظائف تقليدية.
اقتصاد المستقبل نصنعه اليوم، ليس مجرد تطوير مرحلي، بل بناء لنموذج اقتصادي جديد يرتكز على عناصر القوة الداخلية، ويقلل من الاعتماد على العوامل الخارجية المتقلبة، ومع استمرار الزخم في التحول الرقمي، وتنمية الصناعات غير النفطية، وتمكين الكفاءات الوطنية، يبدو أن الاقتصاد السعودي في طريقه لأن يصبح أحد النماذج التنموية الأكثر تأثيرًا عالميا.
HaniAlmahri@yahoo.com