الحمقى

في زوايا الحياة، لا تخلو المجالس، ولا تمضي الأيام، دون أن تصادف أحدهم ذاك الذي لا يسمع إلا صوته، ولا يرى في المرآة إلا الحقيقة المطلقة من خلال تفكيره، يضحك حين لا يُضحك، ويُجادل حين لا فائدة من الجدال، ويصرّ على الغباء كأنه فضيلة، هؤلاء هم الحمقى لا لقلّة علمهم، بل لفرط غرورهم.

الحمق ليس جهلًا عابرًا، بل موقفٌ ثابت من الحياة، الجاهل قد يتعلم، لكن الأحمق يظن نفسه عالِمًا قبل أن يعرف معنى المعرفة، هو لا يسأل ليس لأنه لا يحتاج، بل لأنه لا يرى في الكون من هو أذكى منه ليسأله.

الحمقى يكرهون الاعتراف بالخطأ، لا لأنهم لا يُخطئون، بل لأن الاعتراف يتطلب تواضعًا والتواضع ليس في قاموسهم، يخوضون معارك من لا شيء، وكأنهم خُلقوا للضجيج، ويُطفئون النور حين يتوه الآخرون، فقط ليثبتوا تفوقهم الزائف. هم أول من يُصدر الأحكام، وآخر من يفهم السياق.

وللأسف، لا يعيش الأحمق وحده، بل يُلوث من حوله بسوء قراراته، ويجرّ الآخرين إلى دوائر عبثه، في العمل، في العلاقات، وفي المجتمع، تراه يصرّ على رأيٍ خاطئ، لا لأنه منطقي، بل لأنه رأيه وهذه وحدها حُجّته.

لكن الطامة الكبرى، حين يُمنح الأحمق منصبًا كأن يكون مسؤولاً أو مديراً أو أباً له مكبر صوت، وجمهورًا يحيط به، فترتفع التفاهة لتُزاحم الحكمة، ويُلبَس الباطلُ ثوب الحق، ولنكن صادقين، الحمقى ليسوا نادرين، هم بيننا، وربما فينا، إن لم نحذر.

لأن الحمق ليس حالة عقلية فقط، بل موقف أخلاقي من العالم: تجاهلٌ للحقيقة، استعلاء على الآخرين، وتمسكٌ أعمى بما لا يستحق، الذكاء ليس في سرعة البديهة فقط، بل في التواضع للتعلم، والقدرة على الإنصات، والنضج لا يقاس بكم ما تعرف، بل في معرفة متى تصمت، ومتى تُنصت، وبشجاعة الاعتراف حين تقع في الخطأ.

كثيرٌ من الحمقى يظنون أن في الاعتراف بالخطأ ضعفًا، وفي الاعتذار انكسارًا، وهم لا يدركون أن الشجاعة الحقيقية لا تظهر في الصراخ أو التشبث بالزيف، بل تتجلّى في لحظة صدقٍ يعترف فيها المرء بتقصيره، وفي كلمة” آسف“تنطق بها الشفاه، ولكنها تخرج من أعماق النفس بشموخٍ لا يعرفه إلا من رجحتْ حكمتُه، واستقامتْ مروءتُه. فالاعتذار لا يُنقص من الكرامة شيئًا، بل يزيدها رفعة، ولا يدل على هوان، بل على علوّ في الخلق، وقوةٍ لا يمتلكها إلا ذو عقلٍ راجحٍ، وضميرٍ حيّ.

الحمقى لن يختفوا، لكن بوسعنا أن نُميّزهم، ألا نمنحهم أكثر مما يستحقون من وقت، أو طاقة، أو ردّ، لأن مناقشة الأحمق، كالنفخ في رمادٍ مبلل لا يشعل نارًا، ولا يصنع دفئًا، بل يُتعب الرئتين عبثًا، كما قال الشاعر أبو الطيب المتنبي: “لكل داء دواء يُستطبّ به إلا الحماقة أعيت من يداويها”.

معظم أوجاع الحياة ومشاكلها لها دواء يُشفى به، لكن الحماقة حالة مختلفة تمامًا، ليست مرضًا جسديًا يُعالج، بل غيابٌ للوعي والبصيرة، تُعمى عن رؤية الخطأ، وتُعجز عن إدراك الحاجة للتغيير.

قد لا نستطيع أن نُصلح الحمقى، ولكن بوسعنا أن نُصلح أنفسنا، ونختار بحكمة من نُهدي لهم وقتنا وأفكارنا، فلندع من لا حكمة له يسير في طريقه، ونمضي نحن في دروب النضج والوعي،

حاملين شعلة التعلم والتواضع، ففي ذلك يكمن سر القوة الحقيقية، وراحة الروح التي لا تُقدّر بثمن.

Hinenx777@gmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *