عن الدلة القريشية الأحسائية أحدثكم

كلنا يعرف الدلة والتي هي ليست مجرد وعاء لصب القهوة، بل أحد الرموز البارزة للضيافة الأصيلة والتي تميزت بها الجزيرة العربية منذ القدم، حيث نشأت تقاليد الكرم والاستقبال، فقد كانت القهوة وما تزال عنوان اللقاء فتجمع بين الذوق الرفيع، والحرفة المتقنة، والمعنى العميق للترابط الاجتماعي. ولم تكن الدلة مجرد أداة داخلية منزلية، بل رمزاً اجتماعياً متجذراً في الوجدان العربي. فكل منزل كان يملك دله يُعتنى بها كما يُعتنى بالموروث العائلي. فقد ارتبط ما يوضع فيها من قهوة بالكرم والصفاء والتسامح، وكانت تُقدَّم للضيف في بداية المجلس كتحية ترحيب، وفي نهايته كتعبير عن الاحترام والوداع.
وللدلة تاريخ قديم ومهرة امتازوا في صناعتها حيث كانت رمزا للجمال وأيقونة لكل من أحب الدلال وأشاد بجمالها بأنواعها المختلفة. ومن أشهرها وأبرزها «الدلة القريشية الاحسائية» لجمالها وبراعة صنعها إلا أن الدلال اختلفت أنماطها باختلاف مناطق صنعها، وضلت دلال الأحساء القريشية رمزا من رموز أفضلها اتقانا وصناعة واستحوذا كتراث يقتني ويحفظ فيه من بهائها.
كما يعتقد البعض ان نشأة هذا النمط من الدلال هو بمكة المكرمة بسبب تقارب اسمها فيحسبونها واحدة، إلا أن بالأحساء يضيفون حرف «ياء» لدلتهم فأسموها «القريشية» بدلا من «القرشية» فيما نعتقد أنها تدل بالأحساء على أسماء عوائل صناعها الأوائل الذين أخرجوها وتميزوا بها في الأزمنة القديمة. وببحثنا حتى لا ندع مجالا للشك لم نجد نماذج مشابهة لمثلها بمكة المكرمة حتى نقول بخروجها منها فتصميمها يختلف مما يعزونا القول إنه مجرد تشابه في الأسماء.
وقد تميز الحرفيون الأحسائيون بدقة صناعة الدلال بشكل عام والاعتناء بتفاصيلها. وقد كانت الأسواق القديمة بالأحساء كسوق القيصرية وسوق الذهب وغيرها من الأسواق تعج بصناع الخناجر والسيوف ومن النحاسين الذين صاغوا الدلال بمهارة عالية مستلهمين بنقشها أعمال الفضة والذهب السائدة آنذاك وكذلك أنماط الأعمال الجصية الجدارية المميزة في منازل أحياء الاحساء من المسورة القديمة المعروفة بأحياء الكوت والنعاثل والرفعة..
وتتميز الدلة القريشية الأحسائية بانسياب خطوطها وبساطة مظهرها الخارجي وكثرة نقوشها. فهي تجمع بين الصلابة العملية والجمال الهادئ. بدنها المستدير يمنحها توازناً، وقاعدتها العريضة تحفظ حرارتها على الجمر، بينما يميزها عنق قصير مائل للأعلى يسمح بتدفق القهوة بسلاسة. كذلك المقبض الخلفي المائل يجعل حملها سهلاً حتى وهي ساخنة، والغطاء ذو الرأس المدبب يمنع تسرب الحرارة ويحافظ على نكهة القهوة. كما توجد أنماط أخرى للدلال فمنها الدلة القريشية الحجازية ولها بدن مستدير، وقاعدة عريضة، وعنق قصير، ومقبض مائل للخلف، وغطاء صغير محكم. والدلة الاحسائية بشكل عام أنيقة ذات خطوط منحنية، ورقبة طويلة نسبيًا ومقبض منحوت بعناية وتغنت بالنقوش الدقيقة. وهناك مناطق كثيرة الجزيرة العربية اشتهرت أنماطهم المحلية ولكل خواصه وطريقته المميزة.
كما أن مواد صنع الدلال العربية بالغالب هي من النحاس الأصفر «البرونز» وهي الأكثر شيوعًا في الجزيرة العربية، وتتميز بلونها الذهبي المائل للحمرة والذي يمنح الدلة بريقًا فخمًا. ومن خواصه أنه متين ويحتفظ بالحرارة، وسهل التشكيل والزخرفة. كذلك صنعت الدلة من النحاس الأحمر وهي دلة شائعة في اليمن وعُمان وجنوب الجزيرة. لونها مائل إلى الحمرة مع لمعة داكنة، مما يمنحها طابعًا بدويًا تقليديًا. ومن خواصها احتفاظها بالحرارة لفترة طويلة ويُستخدم غالبا في المناطق الجبلية الباردة. وكذلك صنعت من البرونز المشغول «خليط النحاس والقصدير» والذي غالبا يُستخدم في دلال العراق وبلاد الشام. ومن خواصه أنه أقوى من النحاس الصافي، ويتحمل الحرارة العالية، كما يحتفظ بلونه لفترات أطول.
وكل دلة من هذه الأنماط ليست قاصرة على منطقتها أو مدينتها أو هي مجرد أداة لتحضير القهوة فحسب، بل سفيرة لتراث وفخر الجزيرة والمنطقة العربية بأكملها. فهي تمثل الوقار والفن الشرقي، ولهجة الصحراء لتروي حكاية الحضارات المتتابعة. ومهما اختلفت أنماطها، فإن جوهر الدلة واحد فهي رمز الكرم العربي الذي يجمع الناس حولها وفنجان قهوة الأمر الذي يعبر عن أصالة المنطقة وعمق رائحة التاريخ.
abuaziz@gmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *