طرحت هيئة الزكاة والضريبة والجمارك مشروع تعديلات واسعة على اللائحة التنفيذية لنظام الضريبة الانتقائية، في خطوة تمثل تحولًا استراتيجيًا في فلسفة الضريبة، لتنتقل من كونها أداة مالية بحتة إلى أداة تنظيمية ذكية تهدف إلى التأثير المباشر على الأنماط الاستهلاكية وتحقيق مستهدفات الصحة العامة، وذلك عبر ربط قيمة الضريبة على المشروبات المحلاة بمحتوى السكر الفعلي، بدلاً من النسبة الثابتة المعمول بها سابقًا.
ويُعد هذا التوجه، الذي طُرح للنقاش المجتمعي عبر منصة ”استطلاع“، بمثابة إعادة هيكلة شاملة لأحد أهم بنود الضريبة الانتقائية، حيث يعكس تبني المملكة لأفضل الممارسات العالمية في استخدام السياسات الضريبية لتشجيع المنتجين على ابتكار بدائل صحية، وتوجيه المستهلكين نحو خيارات أقل ضررًا.
ويأتي هذا في سياق أوسع يتماشى مع أهداف رؤية 2030 في بناء مجتمع حيوي ونظام صحي متكامل.
شرائح ضريبية.. حوافز وإعفاءات للمنتجات الصحية
يكمن جوهر التعديلات المقترحة في استحداث نظام متدرج من أربع شرائح ضريبية للمشروبات المحلاة، مصممة بعناية لخلق حافز اقتصادي مباشر للمنتجين لإعادة تركيبة منتجاتهم وتقليل محتوى السكر.
وبموجب الآلية الجديدة، ستُعفى المشروبات الخالية من السكر أو تلك التي تحتوي على كميات منخفضة «أقل من 5 جرامات من السكر لكل 100 ملليلتر» من الضريبة بشكل كامل، حيث حُددت قيمة الضريبة عليها ب ”صفر ريال لكل لتر“.
ويمثل هذا الإعفاء رسالة واضحة للسوق والمستهلكين بأن الخيارات الصحية لن تتحمل أي عبء ضريبي إضافي.
وفي المقابل، تتصاعد القيمة الضريبية مع زيادة محتوى السكر؛ حيث ستخضع المشروبات متوسطة السكر «من 5 إلى 7,99 جرام» لضريبة قدرها 0,79 ريال لكل لتر، بينما ستواجه المشروبات عالية السكر «8 جرامات أو أكثر» أعلى شريحة ضريبية بقيمة 1,09 ريال لكل لتر.
هذه الآلية تضمن أن المنتجات الأكثر ضررًا على الصحة هي التي تتحمل العبء الضريبي الأكبر، مما قد ينعكس على سعر بيعها النهائي للمستهلك.
تسجيل إلزامي.. بوابة رقابية جديدة لضبط السوق
لم تقتصر التعديلات على الجانب المالي، بل امتدت لتؤسس لأداة رقابية غير مسبوقة، وذلك عبر إضافة المادة ”28 مكرر“ التي تفرض على جميع المستوردين والمنتجين تسجيل كل سلعة انتقائية لدى الهيئة قبل طرحها للاستهلاك.
ويحول هذا الإجراء الهيئة إلى ”حارس بوابة“ للسوق، حيث لن يُسمح باستيراد أو بيع أي منتج خاضع للضريبة الانتقائية ما لم يكن مسجلاً ومعتمدًا.
وتمنح هذه المادة الهيئة صلاحيات واسعة لضمان دقة المعلومات المقدمة، إذ يمكنها تعليق أو إلغاء تسجيل أي سلعة، أو حتى منعها من دخول السوق، في حال ثبوت عدم صحة البيانات، خاصة تلك المتعلقة بالمكونات التي يُبنى عليها احتساب الضريبة، مثل محتوى السكر.
كما تتيح للهيئة مطالبة الشركات بتقديم نتائج مخبرية معتمدة لتأكيد دقة بياناتها، مما يضع عبء الإثبات على عاتق المنتج والمستورد ويرفع من مستوى الشفافية في السوق.
تشديد الالتزام وسد الثغرات
عززت التعديلات المقترحة من إطار الالتزام والرقابة بشكل كبير، حيث شددت المادة ”17“ على ضرورة الإفصاح الدقيق، وألزمت المكلفين بالإبلاغ الذاتي عن أي خطأ في إقراراتهم الضريبية خلال 15 يومًا من تاريخ اكتشافه.
وفي حال عدم الالتزام، منحت التعديلات الهيئة صلاحيات أوسع لإجراء تقييم أو إعادة تقييم ضريبي، مع احتساب غرامة تأخير على النقص في الضريبة المستحقة، مما يهدف إلى تعزيز الالتزام الطوعي وردع محاولات التهرب الضريبي.
كما شملت التعديلات توضيحات دقيقة لآلية احتساب الضريبة على المنتجات المركزة والمساحيق، والتي سيتم احتساب ضريبتها بناءً على المشروب النهائي بعد التخفيف وفقًا للإرشادات الموضحة على العبوة، مع منح محافظ الهيئة صلاحية تحديد المنهجية في حال عدم وضوح الإرشادات.
تنظيمات إدارية لدعم التطبيق
إلى جانب التغييرات الجوهرية، تضمنت التعديلات حزمة من التنظيمات الإدارية التي تهدف إلى تسهيل التطبيق وضمان سلاسته، من بينها ربط الفترات الضريبية بالسنة المالية للدولة لتكون مدة كل فترة شهرين تقويميين، وتحديد مواعيد دقيقة لتقديم الإقرارات وسداد الضريبة المستحقة.
كما تم رفع الحد الأدنى للكميات المطلوبة للحصول على رخصة ”مستودع ضريبي“ إلى 2,5 مليون لتر سنويًا من المشروبات، بهدف تخصيص هذه الرخص للمنشآت ذات النشاط التجاري الفعلي الكبير.
وتأتي هذه الحزمة المتكاملة من التعديلات لتؤكد على سعي هيئة الزكاة والضريبة والجمارك نحو تطوير نظام ضريبي حديث وفعال، يواكب المتغيرات الاقتصادية ويخدم الأهداف الاستراتيجية للمملكة في تعزيز الصحة العامة وتحقيق الاستدامة المالية.