الفضيلة.. ميزان الحياة الذي لا يختل

قد يبدو غريبًا أن يكون الخير أحيانًا في «النصف»، لا في «الكمال» ولا في «الحد الأقصى». لكن الحقيقة أن أجمل ما في الفضيلة أنها لا تسكن أطراف المواقف، بل تستقر في قلبها، حيث يتقاطع العقل مع القلب.

الشجاعة مثلًا، ليست قفزة طائشة في المجهول، ولا انسحابًا يائسًا أمام الخطر؛ إنها الوقوف حين يكون الوقوف واجبًا، والتراجع حين يصبح التراجع حكمة.

والكرم، ليس سفرة مفتوحة بلا حساب حتى ينقلب العطاء إلى عبء، ولا يدًا مغلقة تعيش لصاحبها وحده؛ إنما هو أن تعطي بسخاء يحفظ لك كرامتك، ويصون للآخرين احتياجاتهم.

حتى التواضع، تلك الفضيلة التي يظنها كثيرون سهلة، قد تتحول إلى نقمة إن بالغنا فيها. فمن يتنازل عن قيمته حتى لا يُحرج أحدًا، يذيب نفسه بلا أثر. ومن يرفع نفسه فوق الجميع، يختنق بوحدته. التواضع الحقّ أن ترى نفسك كما هي: لا أكثر ولا أقل.
لكن أين يضيع هذا الميزان في حياتنا اليومية؟
الجواب نجده في تفاصيل العمل والبيت والمجتمع. فالموظف المتهور يغامر بقرارات كارثية، والمتردد يُفلت الفرص من بين يديه. بينما الموظف الفاضل هو من يجرؤ بحساب، ويحذر بوعي.

وفي التربية، الأبُّ الذي يترك أبناءه بلا ضابط يزرع الفوضى، والذي يقمعهم في كل صغيرة وكبيرة يخنق فيهم روح الابتكار. أما الأبُّ الحكيم، فيمنح الحرية ويضع الحدود، فيكبر أبناؤه أحرارًا مسؤولين.
بل إن المجتمع كله يدفع ثمن اختلال هذا التوازن حين يميل إلى التطرف في فكره أو انغلاقه. فالوسط ليس منطقة باهتة ولا موقفًا رماديًا، بل هو أعلى درجات الوضوح: أن تعرف أين يبدأ الخير وأين ينتهي.

الفضيلة ليست مجرد درس فلسفي قيل قبل آلاف السنين. إنها خريطة يمكن أن نرسم بها حياتنا اليومية. أن نعمل دون تهور، ونرتاح دون كسل، ونعطي دون إفراط، ونحيا بعزة دون غرور.
إنها ذلك الخيط الدقيق الذي يشدّ أطراف حياتنا فلا نتفتت، ويمنحنا القدرة على أن نكون شجعانًا بلا طيش، كرماء بلا تبذير، متواضعين بلا انكسار.
فالفضيلة، ببساطة، هي فن البقاء في المنتصف.. حيث يتجلى التوازن، ويستقيم الميزان، وتصبح الحياة ممكنة بقدر ما هي جميلة.
azmani21@hotmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *