حين يختار الإنسان أن يموت وهو حي

الجوهاتسو.. كلمة يابانية تُترجم إلى التبخر، لكنها لا تتحدث عن الماء حين يغادر سطحه، بل عن الإنسان وهو يذوب من حياة الآخرين..!
في اليابان، لا يغيب المتبخر بالصدفة ولا يُختطف بالعنف، بل يختار أن ينسحب من مشهد الوجود كما يُطفأ مصباح في غرفة مزدحمة، يقرر أن يترك كل شيء: اسمه، بيته، عائلته، عمله، ذكرياته، ويستيقظ في مدينة أخرى بلا ماضٍ ولا أثر، كأنّه يعلن موته من دون جنازة، وانبعاثه من دون ولادة.
العار في اليابان ليس شعوراً عابراً لمحطات الحياة، بل سيفاً مسلطاً على الرقاب..!
من يفشل في امتحان، من يخسر وظيفته، من يغرق في ديونه، من تنهار حياته الاجتماعية، يصبح جسداً شفافاً لا يحتمل نظرات الآخرين، العار هنا أثقل من الموت، والنجاة الوحيدة هي التبخر، الجوها تسو هو إعلان صامت بأنّ البقاء أحياناً أكثر قسوة من الغياب، وهو فن ياباني في الهروب، يتم بلا دماء، بلا صرخات، بلا أثر سوى كرسي فارغ وصورة على الحائط لم يعد صاحبها موجوداً.
هناك صناعة كاملة تدور حول هذا الاختفاء. وكالات غامضة تُدعى «وكالات الهروب الليلي» تأتي في منتصف الليل، تُحمِّل ما تبقى من متاعك أو لا تحمل شيئاً سوى جسدك المرهق، وتأخذك بعيداً. في الصباح، يستيقظ العالم لتجد أن فلاناً قد تلاشى، وأن الغرفة التي عاش فيها صارت فارغة، كأنها لم تُسكن قط. الشرطة لا تبحث، القانون لا يتدخل، المجتمع يغلق الدفاتر. وحدها العائلة تصرخ في فراغ لا يرد.
الجوهاتسو ليس فقط فعلاً اجتماعياً، بل هو فلسفة، هل يملك الإنسان حق أن يُميت نفسه اجتماعياً؟ أن يُعلن أنّه انتهى من دوره في مسرح الآخرين؟ اليابان، بثقافتها الصارمة التي تُقدِّس الانضباط، تحوّل الاختفاء إلى نوع من العصيان الصامت، تمرد بلا ضوضاء. التبخر هنا ليس هروباً فقط، بل ولادة مظلمة في عالم الظلال.
لكن هذه الولادة لا تحمل دائماً خلاصاً، كثير من المتبخرين ينتهون في الأحياء الفقيرة التي تزدحم بالأشباح البشرية: رجال كانوا موظفين محترمين أصبحوا عمالاً بلا مأوى، نساء هاربات من زيجات مدمرة وقعن في شراك الاستغلال. الجوهاتسو يشبه الانتحار البطيء: يحررك من ماضيك لكنه يسلّمك إلى حاضر أكثر قسوة. الحرية هنا ملغومة، والغياب أثمن من الحضور لكنه لا يمنحك معنى جديداً.
اليابان التي تبني قطارات تتحدى الزمن، وتُشيّد مدناً كأنها مختبرات مستقبلية، هي نفسها اليابان التي تفرز أرواحاً تتبخر لأنّها لم تعد قادرة على تحمّل الصرامة. الوجه المشرق للتنظيم يخفي جروحاً لا يراها أحد. الجوهاتسو هو المرآة التي تعكس أن أعظم الحضارات ليست سوى أقنعة، وأنّ الإنسان حين يختنق يختار الظلّ على الضوء.
الفلسفة العميقة للجوهاتسو تُلخّص مأزق الإنسان المعاصر كله: في زمن المراقبة الكاملة والعيون الرقمية التي تتابع كل حركة، يبدو الاختفاء هو الحلم المستحيل. المتبخرون اليابانيون كتبوا قصتهم بوضوح، أما نحن فنتبخر ببطء بطرق أخرى: عزلة رقمية، قطيعة وجدانية، انقطاع عن ذواتنا القديمة. الجوهاتسو هو اسم ياباني لظاهرة بشرية أشمل، للانسحاب كخيار حين يفشل البقاء في أن يكون حياة.
إنه موت من نوع آخر، موت لا يحتاج إلى قبور ولا تأبين، موت يُعلَن بصمت حين يقرر الإنسان أن يكفّ عن أداء دوره. ومن يختار أن يتبخر يعرف أن العالم لن يبحث عنه، لكنه مع ذلك يترك كل شيء وراءه.
mohalarab75@gmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *