المقاطع القصيرة.. بين الإدمان والتأثير الخفي

في مساء أحد الأيام تدخل باحثًا في مواقع التواصل الاجتماعي عن وصفةٍ بسيطة للغداء، وتفتح هاتفك على عجل، يمر أول مقطع قصير، ثم آخر، فتهمس لنفسك: «خمس دقائق فقط»، إلا أن الدقائق تمتد، وتضيع الوصفة بين مئات المقاطع التي تسرق انتباهك، حتى تنسى وتسأل نفسك ما سبب فتحي للهاتف منذ البداية.
في هذه الأيام لم تعد المقاطع القصيرة مجرد محتوى يُتابَع وقت الفراغ، بل تحولت إلى عادة يومية لأفراد هذا الجيل. دقائق من يومك تذهب بلا وعي، لتصبح ساعات من التمرير المستمر.
يتعرض الدماغ باستمرار لمقاطع ومحتويات ومعلومات متنوعة في مجالات مختلفة، ومن هنا يترسخ الإدمان أكثر ويظهر تأثيرها الخفي، حيث يبدأ الدماغ بالبحث عن جرعة سريعة من المتعة.
هي ليست مجرد تسلية عابرة، بل منظومة مصممة لتغيير عاداتكم، واختزال تركيزكم، ولوضعكم في دوامة لا نهاية لها، بين ضحكة خاطفة ومعلومات عابرة وصور صادمة.
أنها فقط مضيعة للوقت، ومرهقة للدماغ؛ حتى أصبح الناس، صغاراً وكباراً، يلجؤون إلى المقاطع القصيرة لإشباع رغباتهم في مختلف أوقاتهم، فبعضهم أثناء العمل يفتح هاتفه كل بضع دقائق ليشاهد مقطعاً سريعاً، ثم يحاول العودة إلى مهامه؛ لكن سرعان ما تجذبه المقاطع من جديد، حتى ينسى ما كان يقوم به، وآخر يفتح هاتفه قبل النوم ليتسلى قليلاً؛ فإذا بالدقائق تمتد إلى ساعات، ويتفاجأ مع طلوع الصباح أنه قضى ليلته أمام الشاشة.
ترتبط هذه الحالة بمصطلح «تعفّن الدماغ»، الذي اختير ليكون كلمة عام 2024 في «أكسفورد»، بعد 37ألف تصويت، ومناقشة عامة على مستوى العالم، وتحليل من الخبراء.
إنه ليس تعفّن الدماغ بالمعنى الحرفي، بل هو رمز للضرر الذي يلحق بنا بسبب العالم الإلكتروني، بمعنى آخر، إذا قضيت ساعات طويلة في تصفح الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بلا هدف، ستجد نفسك عرضة لتشوش الذهن وضعف التركيز، وفقدان القدرة على الإنتاجية إلى الشعور بعدم الرضا أو حتى الشعور بالذنب بشأن الوقت الضائع في تصفح الإنترنت.
ومع الوقت، قد تتأثر ذاكرتك، ويضعف تفاعلك الاجتماعي الحقيقي، ويزداد شعور بالانعزال والكسل، بل وربما تتسلل مشاعر القلق والاكتئاب؛ كل ذلك نتيجة الاستهلاك المفرط للمحتوى السطحي والسريع، الذي يرهق الدماغ ويستنزف طاقته، حتى يصل بك الحال إلى ما يشبه بتعفّن الدماغ.
وفي النهاية، يظل «تعفّن الدماغ» أكثر من مجرد تعبير مجازي؛ إنه مرآة لحقيقة خطيرة نعيشها دون أن نشعر، فالعقل الذي خلق ليبدع ويفكر ويكتشف، يبذل شيئاً فشيئاً حين نتركه رهينة لمقاطع عابرة وتصفح بلا وعي، إننا نخسر لحظات لا تعوض، وفرصاً لبناء ذواتنا، وتواصلاً صادقاً مع من حولنا، لذا، فإن النجاة لا تكون إلا بوعي متجدد، نختار فيه ما نغذّي به عقولنا، ونوازن بين العالم الرقمي والواقع الحقيقي، وحينها فقط نستطيع أن، نحافظ على عقولنا حيّة، متوهجة، قادرة على أن تقودنا نحو الحياة أعمق معنى وأكثر امتلاءً.
jory02657@gmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *