في عالم يفترض أن تكون فيه العدالة حصنًا منيعًا، قد تتحول الحقيقة إلى سراب، وتصبح الذاكرة سيفًا يقتل الأبرياء. تبدأ القصة برجل في الحادية والثلاثين من عمره، ناجح في عمله، وخطيبته تنتظر الزواج القريب. قرر أن يقضي معها أمسية هادئة في مطعم أنيق، عشاء جميل وضحكات دافئة، ثم عادا في طريقهما إلى المنزل. كل شيء كان طبيعيًا حتى ظهرت سيارة شرطة أوقفت سيارته. لم يكن يعلم أن تلك اللحظة ستكون بداية النهاية.
الشرطة اشتبهت فيه لأنه يشبه مجرمًا هاربًا متهمًا باختطاف واعتداء. مجرد تشابه في الشكل ورقم السيارة كان كافيًا لاعتقاله. التقطوا له صورًا وعرضوها على الضحية وسألوها: «من الذي اعتدى عليك؟»، نظرت الفتاة إلى الصور وقالت بتردد: «ربما هذا». كلمة «ربما» لم تعنِ يقينًا، لكن مع مرور الوقت تحولت إلى تأكيد، وفي المحكمة أشارت إليه بثقة قائلة: «هو هذا الرجل». لم يكن يعرفها من قبل، لكنها كانت الشهادة التي أودعته السجن.
قضى عامًا كاملًا خلف القضبان، فقد خلاله عمله وخطيبته ومستقبله. وعندما نجح صحفي في كشف الحقيقة والوصول إلى الجاني الحقيقي الذي اعترف بجريمته، خرج الرجل بريئًا، لكنه خرج محطمًا. قرر مقاضاة كل من تسبب في ظلمه، لكن قلبه لم يحتمل الضغوط، فأصيب بأزمة قلبية قبل موعد المحاكمة بأيام قليلة، ليفارق الحياة في الخامسة والثلاثين. لم تقتله الجريمة، بل قتلته الذاكرة.. ذاكرة لم تكن ذاكرته.
هذه القصة ليست حالة استثنائية، بل هي جزء من مأساة أكبر. تشير الدراسات إلى أن نحو 75% من أحكام الإدانة الخاطئة في الولايات المتحدة كان سببها شهادات شهود العيان، التي اعتمدت على الذاكرة البشرية. لكن ما لا يعرفه كثيرون أن الذاكرة ليست كاميرا تسجل الأحداث بدقة، بل أشبه بصفحة قابلة للتعديل، يمكن أن تتغير مع الوقت أو بتأثير العوامل الخارجية.
لتوضيح ذلك، أجرى علماء تجربة شهيرة عن تأثير صياغة السؤال على الذاكرة. عرض الباحثون على مجموعتين من الأشخاص مقطع فيديو لحادث تصادم بين سيارتين. بعد المشاهدة، طرحوا على المجموعة الأولى سؤالًا يقول: «ماذا كانت سرعة السيارتين عندما اصطدمتا ببعضهما؟» ثم طرحوا على المجموعة الثانية سؤالًا مختلفًا: «ماذا كانت سرعة السيارتين عندما تحطمتا ببعضهما؟» مجرد تغيير كلمة واحدة من «اصطدمتا» إلى «تحطمتا» أحدث فرقًا كبيرًا. الأشخاص الذين سمعوا كلمة «تحطمتا» قدّروا السرعة أعلى بكثير من الذين سمعوا «اصطدمتا»، بل وتخيل بعضهم أن الزجاج تحطم وانتشر في الطريق رغم أن الفيديو لم يظهر أي زجاج مكسور.
هذه التجربة تثبت أن الذاكرة يمكن أن تتأثر بكلمة واحدة، فما بالك بمرور الأيام والضغوط النفسية والأسئلة الموجهة من المحققين؟ الأخطر من ذلك أن هناك تجارب نجحت في زرع ذكريات لم تحدث أصلًا. في إحدى الدراسات، أقنع الباحثون بعض الأشخاص بأنهم تاهوا في مركز تجاري عندما كانوا أطفالًا. لم يكتف هؤلاء الأشخاص بتصديق القصة، بل أضافوا إليها تفاصيل من خيالهم وكأنها حقيقة عاشوها.
المفاجأة أن حتى الأشخاص الذين يتمتعون بذاكرة قوية للغاية، ممن يستطيعون تذكر تفاصيل حياتهم اليومية بدقة مذهلة، ليسوا محصنين ضد تكوين ذكريات خاطئة. المشكلة ليست في قوة الذاكرة، بل في طبيعتها. إنها مرنة وقابلة للتغيير أكثر مما نتصور.
السؤال الذي يفرض نفسه: كم من إنسان فقد حريته أو حياته بسبب شهادة شاهد كان صادقًا في شعوره، لكنه أسير لذكرى مزيفة؟ العدالة لا ينبغي أن تعتمد على ما نتذكره فهي قد تخون صاحبها قبل أن تخون غيره.
في النهاية، ما نحتاجه ليس فقط تطوير أنظمة العدالة، بل إعادة النظر في يقيننا الزائف بذاكرتنا. فكم من القرارات والمواقف في حياتنا نبنيها على أحداث نعتقد أننا نتذكرها بدقة، بينما هي في الحقيقة مجرد أوهام صاغتها عقولنا؟ ربما كلنا ضحايا لصفحة في أدمغتنا يعيد الزمن كتابتها كل يوم.
ahmadsinky@hotmail.com