الترجمة وجاذبية الهمداني

الترجمة كانت جسر لنقل العلم والمعرفة والثقافة بين الشعوب والحضارات. وكان لها أيضا دور محوري في التطور العلمي، لأن النهضة العلمية لأي حضارة هي عملية تراكمية. وقد صدق نيوتن حين قال: لقد أبصرت بعيدا لأني كنت أقف على أكتاف العظماء. أي أن قانون الجاذبية بدأ بأفكار أرسطو، ثم ملاحظات واستنتاجات الهمداني والبيروني والبغدادي، وبعدهم تجارب غاليليو، وثم قوانين نيوتن، ونظريات آينشتاين، وهذه الأفكار والمعلومات انتقلت بينهم وإليهم عن طريق الترجمة.
ومن الجدير بالذكر، فإن «بيت الحكمة» الذي تم تأسيسه في بغداد، كان له دور كبير في ترجمة علوم الطب والفلك والهندسة والآداب، والفلسفة وغيرها، والتي ساهمت بشكل مباشر في نهضة الحضارة الإسلامية العلمية، وأثرت فيما بعد في النهضة الغربية عن طريق مدرسة طليطلة للمترجمين، ومراكز الترجمة في مدينة صقلية.
ولبيان أهمية الترجمة في نهضة الأمم، فكتاب مثل: «القانون» في الطب لابن سيناء ظل يدرس في الجامعات الأوروبية حتى القرن السابع عشر ميلادي. وكتاب «الجبر والمقابلة» للخوارزمي، وكتاب «المناظر» لابن هيثم وغيرها من الكتب للبيروني والبتاني والرازي أسهمت بشكل واضح في نهضة أوروبا. ومما يذكر كذلك في باب الترجمة، أن ابن رشد لم يكن يجيد اللغة اللاتينية، ولذلك اعتمد على ترجمات كتب أرسطو من النسخ العربية. ثم بعد حين تُرجمت كتب ابن رشد «ويلقب الشارح الأكبر» إلى اللاتينية، وكان ذلك من أسباب انتشار فكر وفلسفة أرسطو في أوروبا قاطبة، أي أن الترجمة كان لها الفضل في نقل العلوم والثقافة في كيلا الاتجاهين العربي والغربي.
ونتحدث عن موضوع الترجمة لأن «30» من شهر سبتمبر يوافق «اليوم الدولي للترجمة». وذكرت هيئة الأمم هذا اليوم العالمي بقولها: «إن نقل العمل الأدبي أو العلمي، بما في ذلك العمل الفني، من لغة إلى لغة أخرى، والترجمة المهنية، بما في ذلك الترجمة المناسبة والتفسير والمصطلحات، أمر لا غنى عنه للحفاظ على الوضوح والمناخ الإيجابي والإنتاجية في الخطاب العام الدولي والتواصل بين الأشخاص». وللمعلومية، تصدر وثائق الأمم المتحدة باللغات الرسمية الست للمنظمة في وقت واحد «العربية والصينية والإنجليزية والفرنسية والروسية والإسبانية».
وللترجمة دور فعال في تطور اللغة، وفي إثراء المصطلحات العلمية، وجعلها موحدة ومختصرة حتى يصبح التبادل المعرفي والعلمي والتقني أدق وأسهل. ومن الملاحظ أن اللغة العربية أثرت في أيام مجدها في اللغات الأخرى، وهي أيضا استطاعت بمرونتها أن تستوعب المصطلحات العلمية الحديثة والتقنية بكل سهولة وتعربها.
وللفائدة، فإن نص «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» عام «1948م»، قد تمت ترجمته إلى أكثر من «500» لغة، وبذلك هو يحمل رقم غينيس للأرقام القياسية باعتباره الوثيقة الأكثر ترجمة عالميا.
وفي عصرنا الحالي ومع التقدم التقني المهول والمتسارع أصبح الذكاء الاصطناعي وبرامج الترجمة تساعد في التخاطب مع الأخرين بلغتهم الأم، وبشكل فوري. ولكن في المقابل، تظل هناك صعوبات في ترجمة الكتب والعلوم التقنية والحديثة، حيث تطل علينا من وقت إلى آخر مصطلحات علمية وتقنية جديدة، وهي تحتاج إلى أن تكون اللغة المراد الترجمة إليها مرنة بشكل فعال لتستطيع استيعاب الكلمات المستحدثة، بما لا يخالف روحها وقواعدها. والواقع، أن اللغات ليست سواسية في قدرتها على اكتساب كلمات جديدة، وعلى التأثير في اللغات الأخرى.
الترجمة تبين قدرة اللغة في التعبير الدقيق عن المعنى، وبراعة المترجم في الصياغة.
abdullahalghannam@hotmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *