في السنوات الأخيرة، صارت كلمة «نرجسي» الأكثر تداولًا على ألسنة الناس. نسمعها في أحاديث المجالس، ونقرأها في مقالات الرأي، ونشاهدها في منصات التواصل وكأنها التفسير السهل لكل علاقة فاشلة أو تجربة موجعة. أصبحنا نصف كل شخص صعب، أو متقلب، أو حتى أناني بأنه «نرجسي». لكن هل هذا دقيق؟
علم النفس يعلّمنا أن اختزال كل الأذى في «النرجسية» ظلم للعلم وظلم للبشر معًا. فالنرجسية، كما حددتها المراجع النفسية «DSM-5»، هي اضطراب شخصية معقد، سماته واضحة: تضخم في الشعور بالأهمية، حاجة مفرطة للإعجاب، استغلال ممنهج للآخرين، وغياب شبه تام للتعاطف. هؤلاء موجودون بلا شك، لكنهم ليسوا كل من آذانا.
الأذى النفسي له وجوه عديدة:
• البارانويا «جنون الارتياب»: أشخاص يعيشون في شك دائم، يفسرون المواقف على أنها مؤامرات ضدهم حتى مع أقرب المقربين. من الصعب أن تقنعهم بحسن نيتك، لأن عقلهم مبرمج على الحذر والريبة.
• الشخصية الحدّية «Borderline»: عواطف متقلبة، حب وكراهية في لحظة واحدة، اندفاعات تجعل العلاقة معهم مليئة بالصراعات، رغم أن نيتهم ليست دائمًا الإيذاء.
• الشخصية المتجنبة أو القلقة: يخشون المواجهة، ويهربون إلى الصمت أو الغموض، فيتركونك في دوامة انتظار وتأويل، وهذا بحد ذاته استنزاف نفسي.
• الأذى الإنساني البسيط: أشخاص عاديون، ضمائرهم ليست ميتة، لكنهم يتصرفون بأنانية أو قسوة لحظية بسبب ضغط أو جهل أو خوف.
الفارق مهم جدًا: النرجسي يستعمل الآخرين كأدوات في مسرح حياته، بينما غيره قد يؤذيك بدافع ضعفه لا بدافع مخطط. وهذا الفارق يصنع كل الفرق في رد فعلنا.
الألم يزداد حين يأتي الأذى من شخص نحمل له امتنانًا. قد يكون صديقًا ساندنا في وقت محنة، أو قريبًا وقف معنا في موقف عسير. هنا يتداخل الحب مع الوفاء، فنتردد: كيف نبتعد عمن وقف معنا يومًا؟ وكيف نغفر لمن جرحنا اليوم؟ هذه المفارقة الإنسانية تفسر لماذا نصبر أحيانًا سنوات في علاقة تستنزفنا، ثم نستيقظ فجأة لنكتشف أننا نعيش في ظل أوهام.
الوعي هنا لا يعني أن نصبح قضاة على شخصيات الآخرين، بل أن نحمي أنفسنا. فالمغفرة لا تساوي العودة، والرحمة لا تعني التساهل مع من يكرر الإساءة. نحن نسامح كي نستعيد سلامنا الداخلي، لكن لا نعيد من أسقطه فعله من قلوبنا إلى مكان لم يعد يستحقه.
ولعل الأهم أن ندرك أن التصنيف ليس غاية في ذاته. من السهل أن نطلق الأحكام: هذا نرجسي، وهذا سامّ، وهذا مريض. لكن النضج أن نرى الصورة كاملة: أن نمنح الأعذار حيث تستحق، وأن نضع الحدود حيث يجب، وأن نتحمل مسؤولية اختياراتنا في من نُبقي وفي من نُبعد.اليوم، ونحن نعيش في زمن تسارع فيه المصطلحات النفسية لتصبح عناوين رائجة، مسؤوليتنا أكبر أن نعيدها إلى سياقها الصحيح.
في النهاية، ليست القضية أن نتجنب النرجسيين فقط، بل أن نُبصر متى يكون الأذى متعمدًا وممنهجًا، ومتى يكون خطأ بشريًا يمكن إصلاحه. وبهذا فقط، نحمي قلوبنا من الاستنزاف، ونحافظ على إنسانيتنا من أن تتحول إلى قسوة مضادة.
dr0lamia@gmail.com