في الوقت الذي يظن فيه البعض أن الأم، عندما تكبر، تنتظر بفارغ الصبر أن تعيش في كنف ابنها وزوجته، تكشف تجارب الواقع عكس ذلك تمامًا. كثير من الأمهات يرفضن ترك بيوتهن والانتقال للعيش مع الأبناء، مفضّلات البقاء في بيوتهن القديمة حتى لو كانت وحشة وصامتة.
قد يبدو هذا الموقف قسوة أو عنادًا، لكنه في الحقيقة قرار عميق تحركه اعتبارات نفسية واجتماعية، تتعلق بالاستقلالية والكرامة وحفظ المودة داخل العائلة.
أول هذه الأسباب هو الحفاظ على الاستقلالية. فالأم، بعد سنوات طويلة قضتها في التربية ورعاية الأسرة، ترغب في أن تعيش بقية حياتها بحرية وهدوء. وجودها في بيت ابنها يجعلها أحيانًا تشعر بأنها ضيفة، وأنها فقدت سلطة اتخاذ القرار حتى في تفاصيل يومها البسيطة.
إلى جانب ذلك، هناك الخوف من أن تكون عبئًا. كثير من الأمهات يرفضن أن يُنظر إليهن بوصفهن مسؤولية إضافية، سواء من الناحية المادية أو النفسية. لذلك تفضّل الأم البقاء في بيتها، ولو وحيدة، على أن تواجه شعورًا بالإحراج أو تُحمّل ابنها وزوجته ما لا يطيقان.
كما أن تجنّب الصدامات الأسرية أحد أبرز الدوافع. الحياة اليومية المشتركة قد تفتح أبواب الخلافات الصغيرة حول أسلوب المعيشة، أو تربية الأبناء، أو حتى تفاصيل المطبخ. هذه الخلافات قد تترك أثرًا سلبيًا على علاقة الأم بزوجة الابن، بل وقد تؤثر على علاقتها بابنها نفسه. ومن هنا ترى الأم أن المسافة تحفظ المودة أكثر مما يضمنها السكن المشترك.
هناك أيضًا البعد العاطفي المرتبط بالبيت. بيت الأم ليس مجرد مكان، بل هو خزان ذكرياتها وملاذ راحتها. الخروج منه بالنسبة لها يعني التخلي عن جزء من هويتها وذاكرتها. لذلك تتمسك بالبقاء فيه، حتى لو كان أبسط وأقل راحة من بيت ابنها.
من جانب آخر، تؤكد بعض الدراسات الاجتماعية أن الأمهات يفضلن البقاء في بيوتهن حفاظًا على كرامتهن في الشيخوخة. فالشعور بالاستقلال يمنحهن احترامًا أكبر لذواتهن، ويجنّبهن الدخول في دائرة الاعتماد الكامل على الآخرين.
في المحصلة، رفض الأم العيش مع ابنها ليس موقفًا سلبيًا أو قسوة، بل هو خيار يعكس رغبتها في حماية نفسها، والحفاظ على احترامها، وضمان استمرار الحب داخل العائلة بعيدًا عن الضغوط اليومية. إنها رسالة غير معلنة تقول: “وجودي في بيتي لا يعني ابتعادي عنك، بل يعني أنني أحبك بما يكفي لأن لا أثقل عليك.