مجالات العمل كانت مفتوحة أمامي. لكن حصل لشخصي عمليات اختيار، وتشذيب، وانتقاء. جميعها كانت تسوقني لخدمة المياه الجوفية. استمرت حتى هذه المرحلة من عمري، بعد السبعين عاما، الزاخرة بهمّة الشباب، وحكمة العلم والخبرات، ودروس الحياة وعبرها وفلسفتها كمنهج.
في الحياة.. هناك دوما.. بريق يأتي.. البعض ينجح في صيده. مع الماء كنت منهم. في كل مرحلة من عمري.. كنت أهيئ نفسي.. لشيء لا أعلمه في حينه.. لكنه كان يعمل لصالح المياه الجوفية. أرى شريط فلم حياتي مختلفا عن البقية في كل مجالات النجاح والفشل. لخصه كتابي بعنوان: [إرادة التحدي]. رسالته إلى الشباب تقول: لا تنهزم.
كل النتائج السلبية والإيجابية، بمعرفتي وبدونها، كانت تأخذ بيدي، واهتمامي، وفكري، نحو قضيتي: تحقيق استدامة المياه الجوفية. وجدتها تنادي بفرض رؤية.. تقود إلى استراتيجية.. تنبثق منها خطط.. تقود لبرامج فاعلة.. تحقق توازنا.. يجعل المياه الجوفية.. مستدامة العطاء لنا ولأجيالنا القادمة.
شريط حياتي (الناضج) بدأ في [مدرسة بقيق المتوسطة النموذجية] بالمنطقة الشرقية. أحد مدارس أرامكو تخطيطا، وبناء، واشرافا، وإدارة، وتعليما. بدايتي كانت استثنائية متميزة. كنت بتلك المرحلة أشبه بالأرض الخصبة. جاهزة لتلقي بذور الحياة المستقبلية.
مدرسة عظيمة كانت تحوي إمكانيات، بمدرسين تم اختيارهم بعناية، وموصفات علمية دقيقة وناجحة. اختارتهم ارامكوا.. ليرسموا مستقبلي. كانوا نخبة صفوة المدرسين من دول عربية. زرعوا الخير، والهمّة، وبذور التحدي المفيدة في نفسي.
في هذه المدرسة المتوسطة النموذجية، برعت مبكرا في التأليف المسرحي، والتمثيل، والرسم، والإلقاء، والتصوير، والموسيقى، بجانب نشاطات متعددة أخرى. نشاطات لا صفية عبرت بشخصي نحو المستقبل بنجاح.
ذلك بجانب التعليم المنهجي. بأساتذة جعلوا من شخصي طالبا متفوقا، وخلاقا، ومبدعا. (مدرسة بقيق المتوسطة النموذجية) كانت إحدى مدارس أرامكو التي ذهبت مجدا ولن تعود في ظل المؤشرات.
في هذه المدرسة المتوسطة كان لي قطعة أرض أزرعها في حصتين اسبوعيا. أرويها بماء أحمله في وعاء من مصدر يتحكم فيه محبس يدوي.
كان لي ورشة نجارة أمارس فيها علم وفنون النجارة.. حصتين اسبوعيا. كان لي مكتبة أقرأ فيها الكتب، وأعمل على تلخيصها، وأقوم بقراءتها أمام الطلاب.. لها حصتين اسبوعيا. كان لي فيها آلة طابعة باللغة العربية والانجليزية.. في حصتين اسبوعيا.
في هذه المدرسة تعلمت الموسيقى، وعزف آلة (الأكورديون). مارست جميع أنواع فنون الرسم، وجميع أنواع النشاط الرياضي، بما فيها الكرة الأمريكية والقفز بالزانة، والجمباز. بجانب برامج رحلات سنوية هادفة.
في (مدرسة بقيق المتوسطة النموذجية) تعلمت ومارست القيادة، والانضباط، والمسؤولية، واحترام وقيمة الوقت، واحترام الوطن وأهله. تعلمت تحدي العقبات من خلال الدروس الكشفية. كنت قائدا للكشافة، ومشرفا على صالة الرسم، بما تحوي من جميع أنواع امكانيات الرسم والتصوير. كان استاذها أحد اشهر رسامي دولة السودان: الأستاذ يوسف مصطفى بلال.. رحمه الله.
كانت كل مستلزمات الدراسة والنشاطات مجانية، مع وجبة غداء لكل طالب في مطعم مجهز. لكن الأجمل.. وبقيم كان يزرعها.. ظل استاذي عثمان الشاعر.. حيّا بجانبي.. يساند قضيتي: المياه الجوفية وهو في قبره بمدينة القدس.. رحمه الله.
وبعد.. ماذا يمكن أن يكون مستقبل طالب هذا وضعه مع مدرس ومدرسة جعلته كتلة من الإمكانيات؟ ويستمر الحديث.