في أعماق كل إنسان بحر من المشاعر، وسماء من الأفكار، وجبال من الذكريات، لكن هذه العوالم تبقى صامتة ما لم تجد طريقها إلى النور عبر الكلمات. وكما قال محمود درويش: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، فإن من أسمى ما يجعل حياتنا جديرة أن تُعاش هو القدرة على قول ما نشعر به بصدق.
والتعبير الحر هو الجسر الذي يصل بين ما نحمله في دواخلنا وما يراه العالم من حولنا، هو أن نمسك القلم دون أن نحسب عدد الكلمات أو نزن المعاني بميزان الخوف، أن نسمح لقلبنا أن يتحدث، ولعقلنا أن يسرح في الحقول المفتوحة للخيال، أن نكتب بلا أقنعة كما نصح جبران خليل جبران حين قال: “إذاصمت صديقك ولم يتكلم، فلا ينقطع قلبك عن الإصغاء إلى صوت قلبه”.
ولعل أول من فتح لنا أبواب هذا العالم هم معلمو اللغة العربية، أولئك الذين كانوا، بحصصهم الأسبوعية ودفاترنا الممتلئة بالسطور، يطلبون منا أن نكتب عن يوم المعلم أو يوم الشجرة أو العيد الوطني. لم يكن الأمر في ظاهره سوى واجب مدرسي، لكننا كنا نتعلّم دون أن نشعر أن للكلمات طاقة، وأن للأفكار أجنحة، وأن الجملة التي نخطّها بالقلم قد تكون جسرًا يصلنا بأنفسنا وبالعالم. كم من طالب تعثر قلمه في البداية، لكنه بفضل صبر معلمه وتشجيعه، تعلّم أن يجمع بين كلمتين، ثم بين فقرتين، حتى صارت أفكاره تخرج في نهر منسجم لا يعرف الانقطاع.
حين نكتب بحرية، نعيد اكتشاف أنفسنا في كل جملة، نقترب من صورتنا الحقيقية في كل كلمة، فالكتابة الحرة أشبه بمرآة صافية تعكس ملامحنا الفكرية والوجدانية بلا تزييف، وهي أيضًا مدرسة للصبر والشجاعة، إذ يحتاج ترتيب الأفكار إلى وعي، والكشف عن الذات إلى قلب لا يخاف. والإبداع لا ينمو في أرض مقيدة، بل يحتاج إلى هواء نقي وفضاء مفتوح، كما قال ألبير كامو: «الحرية ليست شيئًا يُعطى، بل هي شيء ينتزعه الإنسان».
والمجتمعات التي تتيح لأفرادها حرية التعبير هي الأكثر حيوية وقدرة على التطور، لأن الكلمة تصبح فيها وسيلة للحوار وجسرًا للتواصل، تعلمنا أن نختلف باحترام ونصغي قبل أن نحكم، وأن نرى العالم من زوايا متعددة. ولأن التاريخ مليء بأصوات حاولت أن تتكلم فتم إسكاتها، وأقلام أرادت أن تكتب فتم كسرها، جاءت المواثيق الدولية لتؤكد أن حرية التعبير حق أساسي لا يجوز انتزاعه إلا بما يحفظ كرامة الإنسان وحقوق الآخرين، كما نصت المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكاروتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت».
الكلمة الحرة ليست ترفًا، بل ضرورة مثل الماء والهواء، فهي التي تضمن للإنسان أن يعيش بكرامة وأن يشارك في صناعة مصير مجتمعه. والتعبير الحر هو أن نكتب كما نتنفس، لأنه في اللحظة التي نصمت فيها تتسع المسافة بيننا وبين ذواتنا، وعندما نكتب لا نملأ الورق بالحبر فقط، بل نترك أثرًا في الزمن، ونغرس شجرة يستظل بها من يأتي بعدنا.
فلنكتب إذن، لا لأن أحدًا طلب منا موضوعًا عن يوم الشجرة، بل لأننا نريد أن نزرع أشجارًا في عقول الآخرين، ونحتفل بأعياد أفكارنا، ونعلن استقلال أرواحنا من صمتها الطويل. فكما قال فيكتور هوغو: «من يفتح مدرسة يغلق سجنًا»، كذلك من يفتح بابًا للكلمة الحرة، يغلق أبوابًا كثيرة للجهل والخوف. والكلمة الحرة، التي تعلّمنا أول حروفها في فصول اللغة العربية، قادرة أن تبني، وأن تُلهم، وأن تغيّر مصير إنسان.. وربما مصير أمة بأكملها.