الصمت.. انتصار بلا ضجيج

كنت أجلس في مجلس عام، والنقاش محتدم، الكلمات تتقاذف بيننا كما تتقاذف الأمواج قارباً صغيراً، كنت أعرف أنني قادر على الحسم، على قلب الطاولة ببرهان واحد يقطع الطريق على كل جدل، لكنني حين رفعت عيني إلى محاوري، رأيت تجاعيد العمر على وجهه، ورأيت في عينيه بريق السنين لا وهج الحجة، عندها قررت أن أصمت، تركت له الكلمة الأخيرة، وتركت له مساحة انتصار في نهاية الطريق، لم يكن ذلك ضعفاً، بل كان احتراماً؛ لم يكن استسلاماً، بل اعترافاً بأن بعض الحروب لا تستحق خوضها، خصوصاً أمام من باتوا أقرب إلى خط النهاية، ومنذ ذلك اليوم، فهمت أن الانتصار أحياناً لا يكمن في الغلبة بل في التراجع الواعي، هناك لحظات لا يكون التفوق فيها شرفاً، بل ثِقلاً على الضمير، ولحظات يصبح فيها الانسحاب بطولة أعمق من أي جدال أو حسم.
لقد أدركت أن الانتصارات لا تقاس دائماً بعدد الحجج التي تسقط على الطاولة، بل بقدرتك على أن تمنح الآخر مخرجاً كريماً، كان بإمكاني أن أُثبِت تفوقي، لكن ماذا بعد؟ هل كان سيزيد ذلك من قيمتي حقاً؟ أم أنه مجرد كسر لروح أنهكتها الأيام؟ في تلك اللحظة، اكتشفت أن بعض الغلبات ليست إلا عبئاً، وأن الكرامة لا تُصان بإسقاط الآخرين، بل بتركهم واقفين.
الانسحاب ليس دوماً انسحاباً ، أحياناً يكون إشهاراً لنضجك واعترافاً أن القوة ليست في الحسم بل في الرفق..!
في عالم يتسابق فيه الجميع لإثبات الذات، يصبح التراجع اختياراً ثورياً، كأنك تقول: لا حاجة لي بالميدالية، دعها تكون لك، وما يزيد من عمق هذا الاختيار، أن الآخرين يعرفون أنك قادر، وأن صمتك لم يكن عجزاً، بل قراراً، قرار ينطوي على شجاعة أكبر من أي جدل أو تفوق لفظي، لأنك اخترت أن تسيطر على نفسك بدل أن تسيطر على الآخر.
حين نواجه من شابت رؤوسهم واهترأت قلوبهم من مشاق الطريق، يصبح التفوق بلا معنى.
أي بطولة في أن تُثبت أنك أذكى من رجل أنهكه الزمن؟ وأي شرف في أن تسحق جدالاً مع إنسان قضى عمره وهو يحاول أن يثبت نفسه للعالم؟ هنا، شجاعة الانسحاب تتحول إلى كرامة مضاعفة، إنها إعلان أنك ترى الآخر بعيني الإنسانية لا بعيني المنافسة ، تترك له فرصة صغيرة ليشعر أنه انتصر، بينما في الحقيقة أنت الذي ارتقيت.
من السهل أن تهزم الآخرين، لكن من الصعب أن تهزم نفسك، النفس تطالبك بالهيمنة، بالبرهان الأخير، بالكلمة الحاسمة، لكن الحكمة تطالبك بشيء آخر: أن تعرف متى تتراجع وهذا هو التفوق الحقيقي، تفوق على الغرور، على نزعة التملك، على إغراء الغلبة ، لقد صرت أرى أن الانسحاب أحياناً أسمى من الانتصار، لأنه يضعك في مقام أعلى: مقام الذي لا يحتاج إلى إثبات ومن لا يحتاج إلى إثبات، لا يُهزم أصلاً.
ختاماً، نحن جميعاً راحلون، الكل يقترب من خط النهاية نفسه، حيث تسقط الألقاب، وتبلى الميداليات، وتذوب أصوات الجدل، فلماذا نصرّ على إثبات الغلبة في لحظة مؤقتة، بينما نستطيع أن نمنح الآخر فرصة يغادر بها مرفوع الرأس؟ الزمن سيبتلع كل شيء، لكن ما سيبقى هو ذلك الموقف الصغير الذي اخترت فيه أن تصمت احتراماً، تلك اللحظة ستبقى في ذاكرة الآخر، وربما في ذاكرة من حوله، كعلامة على نضج يتجاوز ضجيج الكلمات.
mohalarab75@gmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *