منذ أن رسم سلفادور دالي لوحته الشهيرة ”إصرار الذاكرة“ عام 1931، وما زالت تلك الساعات الذائبة المعلقة على الأغصان وحواف الطاولات تثير دهشة المتأملين، لم تكن مجرد لوحة سريالية، بل كانت إعلاناً فلسفياً بصرياً بأن الزمن ليس صلباً كما اعتدنا أن نراه، بل مرن يتشكل وفق وعينا وتجاربنا وذاكرتنا.
في تلك اللوحة لم تعد الساعات أداةً للقياس، بل كائنات ذائبة تفقد صلابتها أمام قوة الذاكرة، وكأن دالي يهمس لنا بأن الزمن الخارجي وهم، أما الزمن الحقيقي فهو ما تصر الذاكرة على الاحتفاظ به. وهنا يلتقي الفن بالفلسفة، والفلسفة بالعلم.
ألبرت أينشتاين، في نظريته الشهيرة عن النسبية، أشار إلى أن الزمن ليس مطلقاً، بل يتغير تبعاً لسرعة المراقب وحركته. وقد لخّص ذلك في قوله: “الوقت نسبي؛ يمكن أن يتمدد أو ينكمش تبعاً لحركتك وحالتك.” هذه الرؤية العلمية تتقاطع بعمق مع ما صوّره دالي في لوحته: فالزمن ليس واحداً عند الجميع، بل يختلف من شخص لآخر.
وهنا تتضح الحقيقة: لكل إنسان زمنه الخاص ووقته الصحيح، فهناك من يبدأ دراسته الجامعية في الخامسة والعشرين، وهناك من يشرع في تحقيق أحلامه في الأربعين، وهناك من يعيد اكتشاف ذاته في السبعين، النجاح لا يخضع لقوانين الساعة، بل ينبع من اللحظة التي تنضج فيها الروح وتقرر أن تبدأ.
توماس أديسون، مخترع المصباح الكهربائي، واجه في طفولته صعوبات تعليمية كبيرة، ولم يتعلم القراءة والكتابة بشكل طبيعي، لكنه وجد وقته الصحيح لاحقاً ليغيّر مسار العالم باختراعاته.
ومثل العالم الجليل الكسائي، الذي لم يبرز اسمه إلا بعد أن تجاوز الأربعين من عمره، لكنه حين برز صار أحد الأعلام الكبار في اللغة والقراءات، وخلّد مكانته بين أعظم علماء الأمة.
هناك من يزهر مبكراً، وهناك من يحتاج وقتاً أطول ليجد ذاته، لكن القيمة ليست في التوقيت، بل في العمق.
الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون تحدث عن هذا المعنى أيضاً فيما سماه “المدة الزمنية” La) durée)، حيث اعتبر أن الزمن الذي نعيشه داخلياً ليس هو الزمن الذي تقيسه الساعات. فالوعي، في رأيه، يخلق إيقاعه الخاص الذي قد يطيل اللحظة أو يختصر السنوات.
حتى التجارب الإنسانية اليومية تشهد على ذلك: دقيقة انتظار في غرفة العمليات لأم تترقب خروج طفلها أطول من ساعات، بينما ساعات العمل في شغف قد تمرّ كلمح البصر.
دقيقة الألم دهور، وسنوات السعادة لحظة، الزمن ليس موضوعياً؛ إنه ينساب وفق حرارة مشاعرنا وقوة أفكارنا.
وهكذا، فإن لوحة دالي “إصرار الذاكرة” ليست مجرد عمل فني، بل هي نصّ فلسفي مرسوم، يكشف لنا أن العمر الحقيقي لا يُقاس بالسنوات ولا بالأرقام، بل بما يبقى في ذاكرتنا من لحظات عميقة، فالذاكرة هي التي تصر على أن تمنحنا زمناً خاصاً لا يشبه زمن غيرنا، وتؤكد أن الوقت الصحيح لكل إنسان هو وقته الذي ينسجم مع نضجه، لا مع عقارب الساعة.
لا تنظر إلى ساعة غيرك، ولا تقارن زمنك بزمن الآخرين. لكل إنسان إيقاع خفي ينظم مسيرته، ولكل روح ربيعها الخاص الذي لا يزهر إلا في حينه. قد يتأخر الموسم، لا لأنه غائب، بل لأنه ينتظر اللحظة الأصدق ليمنحك ثمرته. وقد يأتي باكراً، لا لأنه عابر، بل لأن وقته الصحيح قد حان.
آمِن أن زمنك قادم لا محالة. وحين يطلّ، ستدرك أن ما حسبته تأخيراً لم يكن إلا تهيئة، وما ظننته فراغاً كان في الحقيقة بناءً صامتاً يمهّد لخطوتك الكبرى.