إذا أردنا أن نلخّص واقع الأندية الرياضية السعودية في ملف الأكاديميات بكلمة واحدة فسنقول «غياب».
ففي وقتٍ باتت فيه صناعة كرة القدم تعتمد بشكل أساسي على الأكاديميات بوصفها الحاضن الأول للمواهب، نرى أن أغلب أنديتنا ما زالت تفتقد إلى رؤية واضحة في هذا المجال، وتتعامل معه على أنه نشاط ثانوي لا يحقق نتائج سريعة، متناسية أن الأكاديميات ليست مجرد مراكز تدريب، بل هي مشروع استثماري متكامل قادر على أن يغيّر مستقبل أي نادٍ رياضي.
الأكاديمية ليست ملعبًا صغيرًا وطاقمًا تدريبيًا يشرف على الفئات السنية فقط، بل هي مصنع لإنتاج اللاعبين، ومورد مالي مستدام للنادي.
النموذج العالمي يثبت أن كل نادٍ يملك أكاديمية قوية لا يحتاج إلى الإنفاق الضخم على استقطاب اللاعبين، بل يصبح هو المصدر والمورّد، ويحوّل المواهب إلى قيمة اقتصادية ورياضية في آنٍ واحد.
نحن نتحدث هنا عن مشروع طويل الأمد، صحيح أنه لا يُثمر بين ليلة وضحاها، لكنه استثمار مضمون العوائد، سواء عبر تخريج نجوم للفريق الأول، أو من خلال بيع اللاعبين لأندية أخرى بأسعار ضخمة.
خذ مثلًا نادي جينك البلجيكي، الذي لم يكن يومًا من عمالقة أوروبا، بل كان نادٍ محدود الموارد وضعيف القيمة السوقية، لكنه اتخذ قرارًا استراتيجيًا هو الاعتماد على الأكاديمية، حيث استثمر في البنية التحتية، وجلب خبراء للتطوير، وركّز على الفئات السنية، وأعطى المواهب فرصة حقيقية للظهور.
والنتيجة؟
أصبح جينك مصنعًا لتصدير اللاعبين، وارتفعت قيمته السوقية تدريجيًا حتى صار من الأندية المعروفة بإنتاج النجوم، بل إن كثيرًا من اللاعبين الذين تألقوا لاحقًا في أوروبا بدأوا خطواتهم من أكاديمية جينك.
هذه التجربة وحدها كفيلة بأن تقنع أي نادٍ أن الأكاديمية استثمار استراتيجي.
ما نراه في أنديتنا السعودية هو الصرف على صفقات اللاعبين الجاهزين، في وقت يمكن فيه أن تُدار هذه الأموال بذكاء عبر الاستثمار في الأكاديميات.
الفارق هنا أن الصفقات قد تنجح أو تفشل، واللاعب الجاهز قد يقدم موسمًا رائعًا ثم يرحل أو يتراجع، أما الأكاديمية فهي استثمار مستدام.
كل موسم يمكن أن يخرج للنادي أكثر من لاعب، بعضهم يرفد الفريق الأول، وبعضهم يُباع، وفي كل الأحوال المكسب مضمون.
في زمن الاحتراف والتحول الكبير الذي تعيشه الرياضة السعودية، أصبح من غير المنطقي أن تظل الأندية تنظر للأكاديميات بعين الهواية، هذا مشروع استثماري متكامل، يحتاج إلى إدارة محترفة، تخطيط بعيد المدى، وربط مباشر بالقطاع الخاص الذي يمكن أن يدخل شريكًا في هذه المشاريع.
اليوم، قيمة اللاعب الشاب الذي يثبت نفسه قد تتجاوز عشرات الملايين، فما بالك لو كان هذا اللاعب ابن الأكاديمية، كلف النادي القليل وحقق له الكثير؟
إضافة إلى الجانب المادي، هناك جانب آخر لا يقل أهمية وهو الهوية.
الأكاديمية تصنع هوية النادي وتُشبع جماهيره بلاعبين نشأوا فيه وترعرعوا داخل أسواره.
وجود أسماء كبيرة خرجت من رحم الأكاديمية يمنح الجماهير فخرًا مضاعفًا ويزيد من ارتباطها بالنادي.
الهلال مثلًا عندما يُذكّر بجيل يوسف الثنيان، والنصر بجيل ماجد عبدالله، والأهلي بجيل محمد عبدالجواد، كلها أسماء خرجت من بيئة النادي وأصبحت أيقونات، ولو كانت الأكاديميات آنذاك تُدار باحترافية أكبر لكانت المملكة صدّرت للعالم عشرات النجوم.
ما نحتاجه ببساطة هو إرادة قرار، فيجب أن تدرك الأندية أن الأكاديميات ليست خيارًا جانبيًا، بل ضرورة استراتيجية، أن يُخصص لها ميزانيات واضحة، وتُسند إدارتها إلى خبراء متخصصين، وأن يتم ربطها برؤية طويلة المدى تجعلها رافدًا ثابتًا للفريق الأول.
التجارب العالمية أثبتت أن نجاح الأكاديميات لا يُقاس بالوقت القصير، بل بالسنوات، ومن يزرع اليوم سيحصد بعد خمسة أو عشرة أعوام، لكن العوائد ستكون أضعاف ما صُرف، سواء رياضيًا أو ماليًا.
خلاصة القول:الأكاديميات مشروع استثماري متكامل، يحقق للنادي الاستقرار الرياضي والمالي، ويصنع هوية جماهيرية أقوى، والأندية السعودية أمام فرصة تاريخية للاستفادة من هذه التجارب العالمية، بدلًا من البقاء رهينة للصفقات الجاهزة.
فالتاريخ لن يتذكر كم دفعت في لاعب أجنبي، لكنه سيتذكر أنك صنعت نجمًا من الأكاديمية أصبح رمزًا للنادي وأيقونة للكرة السعودية.
waleedbamrhool@gmail.com