من الفكرة إلى الواقع: ولادة حلم التضامن الرياضي
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، كانت الرياضة حاضرة في فكر القيادات الإسلامية ليس فقط كوسيلة للتنافس الشريف، بل كأداة دبلوماسية وثقافية تعكس روح الأخوّة والوحدة بين شعوب العالم الإسلامي. في تلك اللحظة التاريخية، طرح صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن فهد -رحمه الله- فكرة إقامة دورة رياضية كبرى تجمع الشباب من مختلف الدول تحت شعارٍ واحد، بحيث تكون الرياضة جسرًا للتواصل والتقارب، وتفتح الباب أمام الرياضيين لصياغة صداقات تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية.
هذه الرؤية الطموحة لم تظلّ حبرًا على ورق؛ ففي السادس من مايو عام 1985، تم تأسيس الاتحاد الرياضي للتضامن الإسلامي رسميًا، ليكون المظلة المؤسسية لهذا المشروع الطموح، وتم انتخاب الأمير فيصل بن فهد -رحمه الله- كأول رئيس للاتحاد، مؤكدًا التزام المملكة بدعم الفكرة منذ ولادتها وحتى تنفيذها. وقد وُضع نصب أعين الاتحاد منذ بدايته هدفًا رئيسيًا هو جعل الرياضة وسيلةً لترسيخ قيم الإسلام السمحة، وتعزيز الصداقة والتفاهم بين الدول الإسلامية في إطار من التنظيم الاحترافي والمشاركة الواسعة.
مكة 2005: حيث بدأ كل شيء
بعد سنوات من التخطيط والرؤية المشتركة، حان موعد الحقيقة في عام 2005، حينما تحوّلت الفكرة إلى واقعٍ ملموس. لم يكن اختيار المملكة العربية السعودية لاستضافة النسخة الأولى اختيارًا عابرًا، بل جاء تجسيدًا لدور المملكة الريادي في قيادة المبادرات الإسلامية الجامعة. وكان طبيعيًا أن تكون مكة المكرمة، أقدس بقاع الأرض وقبلة المسلمين، هي نقطة البداية لهذه المسيرة التاريخية، إلى جانب المدينة المنورة وجدة والطائف.
في تلك النسخة الافتتاحية، اجتمعت 57 دولة من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي تحت سقفٍ واحد، بمشاركة 2,555 رياضيًا تنافسوا في 17 رياضة مختلفة. وقد حظيت الدورة بتنظيم استثنائي يعكس خبرة المملكة وقدرتها على إدارة الفعاليات الكبرى، لتصبح النسخة الأولى علامة فارقة في تاريخ الأحداث الرياضية الإسلامية، ونموذجًا يُحتذى به في السنوات اللاحقة.
محطات صنعت التاريخ: من مكة إلى الرياض
منذ انطلاقها، مرّت دورة ألعاب التضامن الإسلامي بمحطات متنوّعة شكّلت مسار تطورها وتوسعها، فبعد نجاح مكة 2005، كان من المقرر إقامة النسخة الثانية في إيران عام 2009، لكنها لم تُقم لأسباب تنظيمية حالت دون ذلك. وفي عام 2013، احتضنت مدينة بالمبانغ الإندونيسية النسخة الثالثة، قبل أن تنتقل الشعلة إلى مدينة باكو الأذربيجانية في عام 2017، حيث تميّزت تلك النسخة بزيادة عدد الدول المشاركة وتطور مستوى المنافسات الفنية والتنظيمية.
أما نسخة قونية 2021 في تركيا، فقد كانت مختلفة في ظروفها، إذ تأجّلت إلى عام 2022 بسبب تعارضها مع دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في طوكيو، والتي تم تأجيلها بدورها إلى 2021 بسبب جائحة كورونا العالمية. ومع ذلك، حققت نسخة قونية مشاركة قياسية هي الأكبر في تاريخ الدورة حتى الآن، بمشاركة 3,536 رياضيًا، لتؤكد أن البطولة تسير بخطى متسارعة نحو العالمية داخل الإطار الإسلامي.
أرقام وتفوّق رياضي على مدار الدورات
مع كل نسخة، كانت دورة ألعاب التضامن الإسلامي تُثري سجلها بالأرقام القياسية والإنجازات التاريخية، فقد شهدت الدورات السابقة مجتمعةً مشاركة أكثر من 10 آلاف رياضي من مختلف الدول الإسلامية، ما جعلها أكبر حدث رياضي في العالم بعد الألعاب الأولمبية والألعاب الآسيوية.
وعلى مستوى المنافسات، تصدّرت تركيا المشهد الرياضي بتحقيقها 239 ميدالية ذهبية في جميع النسخ، متفوقة بفارق كبير على أقرب منافسيها إيران التي حققت 118 ذهبية، فيما جاءت المملكة العربية السعودية، الدولة المستضيفة للنسخة السادسة، في المركز التاسع برصيد 37 ذهبية، وبإجمالي ميداليات بلغ 111 ميدالية منها 33 فضية و41 برونزية، ما يعكس الحضور التنافسي المتنامي للمملكة في هذه البطولة القارية الكبرى.
تنوع يتجاوز حدود الدين والثقافة
ورغم أن البطولة تحمل اسم “التضامن الإسلامي”، إلا أن أبوابها لم تكن يومًا مغلقة على الرياضيين المسلمين فقط، بل هي مفتوحة أمام جميع الرياضيين من الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الثقافية، فقد شهدت النسخ السابقة مشاركة رياضيين من خلفيات متعددة، وهذا التنوع يعكس بوضوح القيم التي تأسست عليها الدورة، قيم الانفتاح والتسامح والتعايش المشترك، ويؤكد أن الهدف الأسمى هو بناء جسور الصداقة والتقارب بين الشعوب، وأن الرياضة قادرة على أن تكون لغةً عالمية تتخطى كل الحواجز.
الرياض 2025: نسخة استثنائية برؤية جديدة
تستعد العاصمة السعودية الرياض لاحتضان النسخة السادسة من دورة ألعاب التضامن الإسلامي في الفترة من 7 إلى 21 نوفمبر 2025، وسط توقعات بأن تكون النسخة الأكبر والأكثر تميزًا في تاريخ البطولة. فإلى جانب مشاركة متوقعة تتجاوز الأرقام القياسية السابقة، ستشهد هذه النسخة إدخال رياضات جديدة للمرة الأولى مثل سباق الهجن والرياضات الإلكترونية، ما يعكس حرص اللجنة المنظمة على دمج الرياضات التقليدية مع الرياضات الحديثة التي تلقى شعبية واسعة بين الأجيال الشابة.
كما ستحتضن جامعة الأميرة نورة أول قرية رياضية متكاملة للرياضيين في تاريخ المملكة، لتكون مركزًا للتلاقي والتفاعل بين الوفود المشاركة، وتجربة نوعية تُضاف إلى سجل التطوير الرياضي السعودي. ومع هذا التنوع الكبير في الرياضات، إذ ستُقام المنافسات في 23 رياضة، تبدو نسخة الرياض 2025 مرشحة لتكون علامة فارقة في مسيرة الدورة منذ انطلاقتها الأولى قبل عقدين من الزمن.
رسالة تتجاوز حدود الرياضة
لا تقتصر دورة ألعاب التضامن الإسلامي على تحقيق الإنجازات الرياضية فحسب، بل تحمل في جوهرها رسالة أعمق تتعلق بتعزيز قيم التعاون والسلام والوحدة بين شعوب العالم الإسلامي. ومن مكة 2005 إلى الرياض 2025، تظل هذه البطولة شاهدًا على قدرة الرياضة على مد جسور التفاهم بين الدول، وتأكيدًا على أن المملكة العربية السعودية كانت وستظل رائدةً في احتضان المبادرات التي توحد ولا تفرّق، وتبني ولا تهدم.