أبدى الملك عبدالعزيز –رحمه الله– اهتماما كبيرا بالتعليم، وكان يقول: “التعليم في المملكة هو الركيزة الأساسية لنحقق بها تطلعات شعبنا نحو التقدم والرقي في العلوم والمعارف”.
وقال أيضا: “اعلموا أن العلم بلا عمل كشجرة بلا ثمر، وأن العلم كما يكون عونًا لصاحبه يكون عونًا عليه، فمن عمل به كان عونًا له، ومن لم يعمل به كان عونًا عليه، وليس من يعلم كمن لا يعلم، قليل من العلم يبارك فيه خير من كثير لا يبارك فيه والبركة في العلم، المدنية الصحيحة هي التقدم والرقي، والتقدم لا يكون إلا بالعلم والعمل”.
أول اجتماع تعليمي
بعد دخول الملك عبد العزيز مكة عام 1343هـ، دعا إلى أول اجتماع تعليمي يعقده في تاريخ المملكة، فكان أشبه ما يكون بمؤتمر تداول فيه الملك ورجال العلم والأدب وفي مقدمتهم علماء الحرم، أهمية العلم والتعليم وضرورة نشره والتوسع فيه.
ولما دخلت الحجاز عام 1344هـ تحت حكم الملك عبدالعزيز، كان أول ما اهتم به بعد استتباب الأمن هو التعليم، فالتقى علماء مكة وتشاور معهم في الوسائل التي تخدم نشر التعليم وتدعمه، فأعلن إنشاء مديرية المعارف في الأول من شهر رمضان عام 1344هـ – 1925م، ومنذ ذلك الحين بدأ اهتمام الدولة بنشر التعليم الحديث في مناطق المملكة.
وكانت الحجاز أسبق مناطق المملكة في نشر هذا النوع من التعليم؛ نظرًا إلى مكانتها الدينية من ناحية، ولأن التعليم الحديث قد قطع شوطًا لا بأس به عن طريق المدارس الأهلية الحديثة المنشرة فيها، وبدأت الدراسة في المدارس الحكومية أواخر عام 1345هـ وأوائل 1346هـ.
تشكيل مجلس المعارف
وفي 27 محرم 1346هـ – 1927م، شكّل مجلس المعارف برئاسة مدير المعارف ليشرف على السياسة التعليمية، وبذلك عرفت البلاد لأول مرة نظام التعليم بالمعنى الحديث الذي يستهدف توحيد التعليم للمواطنين ويقرر شموليته وتعميمه.
وشهدت مكة المكرمة كما يذكر ذلك د. محمد السلمان في كتابه “التعليم في عهد الملك عبدالعزيز”، إنشاء أول مدرسة ابتدائية في التعليم الحكومي الحديث، وهي مدرسة الملك عبدالعزيز ” العزيزية” التي أنشئت عام 1345هـ.
وفي العام نفسه، افتُتحت المدرسة السعودية والفيصلية والمحمدية، وفي المدينة المنورة تعد المدرسة المنصورية والمدرسة الناصرية اللتان أُنشئتا عام 1344هـ أول المدارس الحكومية في المدينة المنورة، فيما تعد مدرسة الأمراء في الرياض التي بدأت فكرتها عام 1349هـ، ومارست نشاطها 1356هـ أول المدارس الحكومية وكانت خاصة بأبناء الملك عبدالعزيز.
أما أول مدرسة للأهالي في الرياض، فقيل إنها مدرسة ولي العهد التي افتُتحت في حدود عام 1356هـ – 1937م، وتوالت المدارس الابتدائية تفتح في بقية مناطق المملكة.
وظلت مديرية المعارف تشرف بشكل خاص على التعليم في الحجاز حتى عام 1351هـ – 1932م، وهو عام إعلان توحيد المملكة باسم “المملكة العربية السعودية، فاتسعت صلاحيات مديرية المعارف وأصبحت مسؤولة عن شؤون التعليم في مناطق المملكة بأسرها.
المدارس الثانوية
وفي عهد الملك عبدالعزيز – رحمه الله – كان يطلق اسم المدارس الثانوية على كل المدارس لما فوق المرحلة الابتدائية، إذ لا توجد مرحلة متوسطة حينذاك.
والتعليم الثانوي لم يكن يقتصر على التعليم الحكومي فحسب، بل وجد في بعض مدارس التعليم الأهلي، ومن أمثلتها: المدرسة الصولتية ومدرسة دار العلوم الدينية في مكة، ومدارس الفلاح في مكة وجدة.
ويعد المعهد العلمي السعودي في مكة المكرمة ثم المدينة المنورة نواة التعليم الثانوي بالمملكة، وقد افتتح عام 1345هـ – 1926م، وهو أول مدرسة ثانوية تنشأ في المملكة بشكل رسمي، وقد كان له أثر كبير على تطوير التعليم في المملكة.
مواجهة الصعاب وتذليلها
وكان مما يميز سياسية الملك عبدالعزيز – رحمه الله – أنه كان قادرا على التعامل مع الظروف مهما اختلفت، فلما ظهرت الحاجة إلى توفير علماء وقضاة ووعاظ ومرشدين في مجال العلوم الشرعية، جاء أمره بإنشاء مدرسة دار التوحيد بالطائف عام 1364هـ.
ولما وُجدت الحاجة إلى قضاة على المستوى الجامعي وكذلك مدرسين ووعاظ، أُنشئت كلية الشريعة بمكة، وبعد مواجهة ندرة مدرسي الثانوية جاء إنشاء كلية المعلمين بمكة.
ولما واجهت الدولة مشكلة ندرة المدرسين لم تبخل في التعاقد مع مدرسين من الخارج للتدريس في المراحل الثانوية والجامعية.
كما سارعت بإرسال بعثات طلابية للدراسة الجامعية في جامعات بعض الدول العربية خاصة في مصر.
صدور نظام البعثات
وفي عام 1355هـ، صدر نظام البعثات، فالملك عبدالعزيز بنظرته البعيدة، أراد لأبناء الوطن أن يتسلحوا بالعلم والمعرفة في التخصصات التي كانت غير متوافرة في الوطن، فجرى ابتعاث الشباب المتميزين والمتفوقين، وفُتحت مدرسة تحضير البعثات التي أنشئت عام 1355هـ – 1936م آفاق الابتعاث الحكومي، لأن الهدف من إنشاء تلك المدرسة هو إعداد الطلاب السعوديين للالتحاق بالجامعات في الخارج خاصة الجامعات المصرية، لذا فقد شابه مناهجها مناهج المدارس الثانوية في مصر إلى حد كبير، باستثناء التوسع في مواد الثقافة الإسلامية واللغة العربية أكثر مما هو موجود في مصر.
افتتاح المرحلة الجامعية
وبعد تزايد عدد خريجي المرحلة الثانوية في المملكة، بدت الحاجة ملحة لانتقال البلاد نحو افتتاح المرحلة الجامعية، خاصة أن نظام البعثات يكلف الدولة كثيرًا، إضافة إلى كونه لا يصلح أن يكون نظامًا عامًا.
وجاءت موافقة الملك عبدالعزيز على إنشاء كلية الشريعة في مكة المكرمة عام 1369هـ، وبذلك دخلت المملكة عهد المرحلة الجامعية.
وكانت كلية الشريعة في مكة أول تجربة رائدة للتعليم العالي الحديث في المملكة، وبعد ذلك أُنشئت كلية المعلمين بمكة المكرمة عام 1372هـ.
التعليم المهني
وتجاوزت نظرة الملك الموحد في رؤيته للعلم والمعرفة أبعد من ذلك، فاتجه إلى التعليم المهني فأمر بإنشاء المدرسة الصناعية في جدة عام 1367هـ، لسد حاجة البلاد إلى الأيدي العامة الفنية بعد أن بدأت تظهر الحاجة إليها مع بداية تطور البلاد، وهي تُعد أول مدرسة مهنية صناعية في المملكة.
وفي عام 1372هـ أُنشئت المدرسة التجارية المتوسطة في مكة المكرمة لتأهيل خريجيها للعمل في وظائف المحاسبة والتجارة والاقتصاد في الشركات والبنوك.
وفي أواخر عهد الملك عبدالعزيز وبداية الملك سعود، ظهرت في الرياض مدرسة صناعية في عام 1373هـ.
مدرسة دار التوحيد
تُعد مدرسة دار التوحيد في محافظة الطائف، أول مدرسة نظامية أسسها الملك عبدالعزيز، عندما أمر –رحمه الله- في عام 1364هـ بإنشاء أول دار لتعليم العلوم العربية والشرعية.
وأسهمت مدرسة دار التوحيد في دفع حركة التعليم خلال عهد الملك عبدالعزيز –رحمه الله-، وتحفيز أولياء الأمور الذين لم يألفوا نظام المدارس آنذاك لضم أبنائهم إليها، لأن البعض من أفراد المجتمع لم يكن راغبًا في إرسال أبنائهم، إما للحاجة اليهم في أعمال الزراعة والتجارة أو للخوف عليهم.
واختيرت محافظة الطائف كي تكون مقرًا تعليميًا خلال هذه المرحلة الزمنية للبلاد، لما تتسم به المحافظة من موقع جغرافي مميز يربط بين الحجاز ونجد، ومكة المكرمة للمتجهين للصلاة في المسجد الحرام، أو أداء مناسك الحج والعمرة.
فضلًا عن بيئتها الطبيعية الخلابة التي ساعدت الطلاب المقبلين إليها من مختلف مناطق المملكة على سرعة التأقلم مع المكان، والاندماج مع أبناء الطائف المعروفين ببساطتهم وحبهم للاجتماع مع الناس.
واجتمع الملك عبدالعزيز، في عام 1363هـ بالشيخ محمد بهجة البيطار، وناقش معه أمر تأسيس مدرسة “دار التوحيد” في الطائف، بعد أن ناقش -رحمه الله- الموضوع مع سماحة المفتي العام للمملكة آنذاك الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ومع كبار العلماء -رحمهم الله جميعًا-.
وكان يُصرف للطلاب المتفوقين مكافأة مالية مجزية تشجيعًا على التنافس الشريف بينهم، من أجل الاهتمام بالتزود بالعلوم والمعارف، بينما كانت تصرف رواتب الإجازة الصيفية للطلاب قبل الإجازة.
تخريج كوارد وطنية مؤهلة
وجاء اهتمام الملك عبدالعزيز – رحمه الله – بهذه المدرسة من أجل تخريج كوارد وطنية مؤهلة في القضاء والدعوة والإرشاد وعدد من الأعمال الإدارية بالدولة، وأسند -رحمه الله- إدارتها للشيخ محمد بهجة البيطار -رحمه الله-، واختير نخبة من العلماء للتدريس فيها، ومنهم رئيس محاكم الطائف الشيخ أمين فودة، وأستاذ مادة الفرائض الشيخ محمد الفرائضي، ووزير الأوقاف المصري وأستاذ مادة التفسير الشيخ محمد حسين الذهبي، وأستاذ مادة الفقه الشيخ عبدالله الصالح الخليفي -رحمهم الله جميعًا-.
وتصدرت مدرسة دار التوحيد أقدم وأعرق مدارس المملكة المختصة في تدريس مواد اللغة العربية والعلوم الشرعية، وتجسد ذلك في اهتمام الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بها وإشرافه عليها، وربطها بقصره مباشرة، موجهًا نجله الأمير منصور بن عبدالعزيز بتوفير جميع متطلباتها المدرسية واحتياجاتها.
كما جعل الأمير فيصل النائب العام للملك رئيسًا لمجلس الوكلاء، ومرجعًا لإدارة المدرسة.
9 مدارس للمرحلة الابتدائية
ولم تكن مدرسة دار التوحيد الوحيدة في عهد الملك عبدالعزيز في تلك الفترة، إذ جرى تأسيس 9 مدارس للمرحلة الابتدائية في مناطق نجد والأحساء عام 1356هـ لتهيئة الطلاب.
لكن “دار التوحيد” عُنيت باستيعاب طلاب المدارس الابتدائية في المرحلة الثانية من التعليم، وتطويرهم في تخصصات علمية عديدة، وانتظم فيها في ذلك الحين للدراسة 50 طالبًا.
وأكد المؤرخون أن مدرسة دار التوحيد كانت النواة الأولى لكلية الشريعة في مكة المكرمة التي افتُتحت عام 1369هـ، إذ كانت الدفعة الأولى من خريجيها من طلاب دار التوحيد عام 1368هـ، لتكتمل الحلقة التعليمية المباركة التي خطط لها الملك عبدالعزيز -رحمه الله-.
ومن أبرز العلماء والشخصيات الذين تخرجوا في دار التوحيد وتقلدوا مناصب عُليا في الدولة: الشيخ محمد بن إبراهيم الجبير، والشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ، والشيخ عبدالعزيز المسند، والشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن آل الشيخ، والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ عبدالرحمن بن عبدالله المنيع.
والشيخ عبدالله بن سليمان الخليفي، ود. راشد بن راجح الشريف، ود. عبدلله فراج الشريف، والشيخ صالح بن عبدالله المطلق، ود. فهد بن ساعد الحارثي، والفريق زميم بن جويبر السواط، والعميد محمد بن غازي الجودي.
أول نظام للمدارس
في عام 1347هـ، صدر أول نظام للمدارس، وتضمن هذا النظام شروط القبول في المدرسة ومدة الدراسة بها وواجبات التلاميذ ونظام التقويم والامتحانات.
وظل هذا النظام ساريًا لمدة 10 سنوات حتى سنة 1358هـ، إذ عدل عليه بمجانية التعليم في جميع المدارس الحكومية.
وفي عام 1362هـ، عدل أيضًا على نظام التعليم بالمملكة، لتصبح المرحلة الابتدائية 6 سنوات بدلًا من 4، بعد دمج المرحلة التحضيرية مع الابتدائية، وضم السنة الأخيرة مع المرحلة المتوسطة.
وقُسمت المرحلة الثانوية إلى قسمين هما: المرحلة المتوسطة والمرحلة الثانوية، لكل مرحلة 3 سنوات دراسية.
المدرسة التذكارية في الرياض
شهدت العاصمة الرياض عددًا من المتغيرات الثقافية والفكرية والحضارية، انعكست إيجابًا على نماء مسيرة الحركة التعليمية، ونقلها من نمطها التقليدي عبر الكتاتيب وحلقات المساجد ودور العلماء والدور الخاصة والمدارس الخاصة، إلى مرحلة تواكب مستجدات العصر، وذلك بإعلان افتتاح مدرسة الرياض الأهلية، وفيما بعد باسم “المدرسة التذكارية”، لتصبح نواة التعليم الحديث الرسمي في الرياض.
وأٌنشئت المدرسة التذكارية بتوجيه من الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- عقب عودته من رحلته إلى مصر عام 1365 هـ، إذ اتفق أهالي الرياض وقرروا إقامة احتفالات ابتهاجًا وفرحًا بعودته.
جمعوا مبلغًا من المال، وأُمر حينها بأن تُصرف هذه الأموال في مصلحة سكان البلاد إيذانًا بعهد جديد للتعليم الحديث الرسمي في الرياض، ثم أُنشئت، وبدعم من الملك عبد العزيز -رحمه الله-، افتُتحت المدرسة عام 1367 هـ، في حي البطحاء، بحضور جمع من أهالي وتجار الرياض، وكان مسمّاها حينها المدرسة الأهلية، وكان الشيخ عبدالله بن إبراهيم السليم -رحمه الله- أول مدير لها.
وتتجلى في ذلك صورة التعاون والتشارك بين الجهات الرسمية والأهالي، فالجميع دعموا هذه الفكرة، وأسهموا فيها كل بحسب إمكاناته وجهوده ووقته وماله، بهدف واحد وهو البناء والتعمير في البلاد.
وفي عام 1384هـ تغير مسمى المدرسة الأهلية إلى التذكارية، عندما زارت مجموعة من الطلاب يرافقهم أحد الأساتذة، الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- راغبين في مشاركته من خلال الكلمة الافتتاحية للمجلة التي تعتزم إصدارها المدرسة.
فوجه بتسمية المدرسة بـ “التذكارية”، تذكارًا لعودة الملك عبدالعزيز من رحلته إلى مصر، وما زالت تُعرف بهذا الاسم حتى الآن.
أبرز ملامح التعليم في عهد الموحد
أرسل الملك عبد العزيز الدعاة والعلماء إلى القبائل لتوعيتهم بأمور دينهم ونبذ الخرافات والبدع.
ثم أمر بتأسيس مديرية المعارف العامة سنة 1344هـ للاضطلاع بمسؤولية قيادة النهضة التربوية في البلاد عن طريق فتح المدارس ووضع برامج التعليم لجميع المراحل التعليمية، وقُسمت المملكة إلى 7 مناطق تعليمية يشرف على كل منطقة معتمد للمعارف.
وجدت المدارس الابتدائية ومدة الدراسة بها 6 سنوات، والمدارس الثانوية ومدة الدراسة بها 4 سنوات، وفيها شعبتان دينية وعلمية.
وفي سنة 1346هـ تشكَّل أول مجلس للمعارف برئاسة مدير المعارف، وأوكل إلى هذا المجلس وضع نظام تعليمي في الحجاز يراعي توحيد التعليم وإلزامية التعليم الابتدائي ومجانيته، وتقسيم التعليم إلى 4 مراحل: تحضيرية، وابتدائية، وثانوية، وعالية.
وبعد سنة 1351هـ اتسعت صلاحيات مديرية المعارف لتتعدى وظيفتها الإشراف على التعليم في الحجاز إلى الإشراف أيضًا على جميع الشؤون التعليمية في المملكة عدا التعليم العسكري.
صدر سنة 1357هـ نظام جديد للمعارف ألغى ما سبقه من أنظمة، وحدد صلاحية مدير المعارف وتشكيل مجلس المعارف وصلاحياته، وتطورت ميزانية التعليم بحيث غدت سنة 1373هـ 20 مليون ريال.
وقرّر نظام المدارس سنة 1358هـ مجانية التعليم في جميع المدارس الحكومية، وحدد مدة الدراسة في المدارس والمعاهد العلمية ومدرسة تحضير البعثات.
وجرى تحليل المناهج الدراسية في المدارس، والمعهد العلمي السعودي، وتناول تدريب وإعداد المدرسين، وإرسال البعثات، وفتح المدارس الليلية ومدارس مكافحة الأمية.