في صباح عادي من أيام الجامعة، دخل طالب جامعي القاعة وهو يضع على الطاولة كوب قهوة أنيق مطبوع عليه شعار مقهى عالمي. لم يكن بحاجة لتلك القهوة، فهو بالكاد يتذوقها، لكنه كان بحاجة إلى شيء أهم: أن يُرى وهو يحملها. التفتت العيون إليه، بعضها بإعجاب وبعضها باستخفاف، لكنه شعر بالرضا… لقد حقق الغرض.
وفي مقهى الجامعة جلست فتاة تُخرج من حقيبتها جهازاً متنقلاً فاخراً بآلاف الريالات. لم تكن تستخدم نصف مزاياه، لكنها أرادت أن تقول للعالم بصوت صامت: “أنا هنا… أنا مثلهم”.
القصة لم تقف عند حدود القهوة أو الأجهزة، بل امتدت إلى كلّما يلمع على شاشات الهواتف: أزياء بعلامات أجنبية، رحلات سياحية من أجل صورة عابرة، تحديات غريبة وربما ضارة فقط لأنها “ترند”، حتى أساليب حياة لا تشبه أصحابها بقدر ما تشبه جمهوراً مجهولاً في مكان ما.
تشير إحصاءات عالمية إلى أن ما يقارب ٦٠٪ من المشتريات لدى الشباب مرتبطة بالموضة والضغط الاجتماعي أكثر من ارتباطها بالحاجة الفعلية. وفي دراسة أخرى، اعترف أكثر من ٥٠٪ من مستخدمي وسائل التواصل بأنهم اشتروا منتجات فقط لأنها كانت رائجة على المنصات. هذه الأرقام تكشف أن الظاهرة ليست مجرد قصص فردية، بل سلوك جماعي يستهلك المال والوقت والطاقة النفسية.
إنها ظاهرة الانتماء الوهمي… أن تنتمي لا لذاتك ولا لقيمك، بل لما يفرضه الآخرون من موضات واهتمامات، في دوامة اجتماعية تحركها وسائل التواصل. المفارقة أن كثيراً من هذه الأشياء لا تُشبع رغبة حقيقية، بل تترك فراغاً أكبر، وتخلق سباقاً لا ينتهي على “من يملك أكثر” أو “من يعيش أبهى”.
وللتعامل مع هذه الظاهرة، يحسن بالفرد أن يتعلم فن السؤال قبل الشراء: هل أحتاجه فعلاً؟ هل يمثلني أم يظهر صورة أريد أن أصطنعها؟ هذه المراجعة الذاتية قد تنقذ كثيرين من الوقوع في فخ الاستهلاك الوهمي.
أما بالنسبة للأسرة، فإن غرس قيمة التميّز بالجوهر لا بالمظاهر منذ الطفولة، وتربية الأبناء على الاعتزاز بما يبدعون فيه لا بما يشترون، هو الدرع الأول ضد ضغط المجتمع.
ولا شك أن للمجتمع والإعلام دوراً بارزاً في التعامل مع هذه الظاهرة، بواسطة إعادة توجيه الضوء نحو قصص نجاح حقيقية، مبادرات مجتمعية ملهمة، أو حتى أنماط حياة متوازنة. فكما تنتشر الظواهر السطحية بعدسة واحدة، يمكن أن تنتشر الإيجابية بالوسيلة ذاتها.
في النهاية، يظل الإنسان كائناً يبحث عن الانتماء. لكن الفارق كبير بين أن تنتمي لهويتك وقيمك، أو أن تذوب في “جماعة افتراضية” تقودك حيث لا تدري. والسؤال الذي يواجه جيلنا اليوم: هل نريد أن نكون نسخة أخرى مما يريده الآخرون، أم نريد أن نترك أثراً أصيلاً يشبهنا؟
فالترند يزول سريعاً، أما القيم الذي نصنعها ونتمسك بها فهي التي تبقى… وتمنحنا انتماءً حقيقياً لا يحتاج إلى كوب قهوة أو جهاز فاخر كي يُثبت وجوده.