حين تمسك كتابًا، قد تشعر أن الورق أثقل من الحديد، وأن السطور تمتد كسرب لا ينتهي. تفتح محاضرة فتغدو الدقائق فيها أبطأ من عقارب ساعة معطوبة. تحاول أن تدرس بجد، فلا تمضي سوى بضع صفحات حتى يتسرب إليك الملل وكأن ذاكرتك أغلقت أبوابها في وجهك. المدهش أننا غالبًا لا نعترف بهذا العجز أمام الآخرين، بل نتظاهر بالقدرة والاهتمام، بينما في داخلنا نعلم أننا نفتقد الصبر على كل ما يتطلب وقتًا وتركيزًا.
السر ليس غامضًا كما نظن، بل يكمن في العادة التي صنعتها أيدينا بأنفسنا. لقد أدمنّا المحتوى السريع، وتعودنا على المقاطع القصيرة التي تلمع في أعيننا ثم تتلاشى قبل أن تترك أي أثر عميق. شيئًا فشيئًا، صار ذهننا يقفز كقرد صغير من غصن إلى آخر، لا يثبت على فكرة واحدة، ولا يمنح نفسه فرصة التعمق في أي معرفة.
هذه الحالة ليست مجرد تشتت عابر؛ إنها ما يسميه الحكماء قديمًا بـ «عقل القرد» وما نطلق عليه اليوم «فقدان الشغف». غير أن المسميات مهما اختلفت، تظل الحقيقة واحدة: عجز عن الثبات، وضياع للتركيز، وتآكل بطيء لقدرتنا على الاستمتاع بما يحتاج إلى صبر.
إن الشغف لا يتبخر فجأة من حياتنا كما نظن، بل يتسرب قطرة قطرة مع كل لحظة انسياق وراء السرعة، ومع كل استسلام لسطحية لا تمنحنا سوى بريق قصير. نستيقظ يومًا لنجد أن القراءة صارت عبئًا، والمحاضرة عذابًا، والدراسة طريقًا طويلًا لا نقوى على اجتيازه. وهنا ندرك أننا خسرنا أثمن ما فينا: القدرة على الغوص، على الانشغال الحقيقي، على مرافقة الفكرة حتى تنضج داخلنا.
إن استعادة الشغف لا تأتي من انتظار معجزة، بل من إعادة تدريب أنفسنا على التمهل. أن نكسر دائرة العجلة، ونمنح عقولنا فرصة أن تتذوق البطء من جديد؛ صفحة تُقرأ بتأمل، محاضرة تُسمع كاملة دون انشغال، وفكرة يُسمح لها أن تنضج في هدوء.
فقط عندها سندرك أن العقل ليس قفصًا يقفز فيه قرد بلا هوادة، بل حديقة يمكن أن تهدأ لتثمر. والشغف، في جوهره، ليس شيئًا نبحث عنه في الخارج، بل هو تلك القدرة على الثبات، على الإصغاء، وعلى أن نمنح الزمن نفسه فرصة أن يعمل معنا.
وما نطلق عليه اليوم «فقدان الشغف».. غير أن المسميات مهما اختلفت، تظل الحقيقة واحدة
fatemaalhqbani52@gmail.com