ذاكرة الكتب المدرسية

العام الدراسي بالنسبة لنا لا يبدأ بالجرس الأول، ولا بأول حصة، بل يبدأ حين تدخل الكتب المدرسية بيتنا.
تلك اللحظة التي تتحوّل فيها الطاولة إلى مسرح صغير، تكتظ عليه رائحة الورق الجديد، وأصوات القص واللصق، وضحكاتنا المتقطعة بين الحماس والتركيز.
أختي تمسك بالمقص، وأخي يقطع شرائط اللاصق، وأنا أضع الكتب أمامي وأمد يدي نحو كومة الأغلفة الملونة التي اخترتها بعناية من المكتبة: الأزرق البارد لمادة العلوم، الأخضر العميق للرياضيات، الأحمر النابض للفنون، والأصفر الدافئ للغة العربية.
كنت أؤمن أن اللون ليس مجرد غلاف، بل هو روح ترافقك طوال العام، وأن اختيار اللون المناسب للمادة يمنحها ملامحها الخاصة.
نبدأ العمل ببطء، نمد الغلاف على الكتاب، نضغط على الزوايا بإبهامينا، ونحاول طرد الفقاعات الصغيرة تحت الورق الشفاف.
وحين يلتصق اللاصق بأصابعنا، ننفجر ضحكًا، ثم نعود لنكمل المهمة وكأننا في ورشة عائلية لإعداد هدايا لا يراها غيرنا.
بعد كل كتاب ننجزه، أفتحه على الصفحة الأولى وأكتب اسمي بخط متأنٍّ، أحيانًا بزخرفة طفولية، وكأنني أوقّع عقد صداقة مع هذا الرفيق الجديد.
لم يكن الأمر مجرد حماية للكتب، بل كان طقسًا يربطنا بالعام القادم، ويجعلنا نشعر أننا جاهزون لمغامرة جديدة.
وفي المساء، حين تكتمل الكومة، نجلس نلمس أغلفتها الملساء ونقلب صفحاتها بسرعة، نقرأ العناوين ونبحث عن الصور، وكأننا نتجسس على المستقبل قبل أن يبدأ.
اليوم تغيّر كل شيء..
بعض الكتب صارت ملفات رقمية تُحمَّل على شاشات باردة لا تحمل رائحة الورق، وبعضها يُطبع على عجل بلا دقة أو ألوان.
لم تعد الطاولة تمتلئ بالأغلفة الملونة، ولم يعد هناك مقص أو شريط لاصق، ولم تعد أختي تمد يدها بالقصاصات الصغيرة، ولا أخي يضحك حين يلتصق اللاصق بيده.
لكنني ما زلت أحتفظ بكتبي القديمة، مرتبة على رفّ خاص، ألوان أغلفتها باهتة الآن، لكنها ما زالت تنبض بالذكريات.
وحين ألمسها، أشعر أنني ألمس أيامي القديمة، تلك الأيام التي كان فيها للكتاب رائحة، وللغلاف لون، وللتعليم دفء لا تمنحه أي شاشة.
كانت الكتب المدرسية أكثر من مجرد مناهج… كانت بداية العام بطقوسه، ولون كل كتاب كان أشبه بعلم صغير أرفعه في سباق الحياة.
واليوم، كلما مررت بصفحة إلكترونية بلا رائحة ولا لون، أفتقد تلك اللحظة التي كنت أختار فيها جلادي المفضل، وأجلس بين أختي وأخي نصنع من الكتب مهرجانًا صغيرًا يليق ببدء رحلة جديدة
ayaamq222@gmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *