فِي داخِلِي شَمسٌ تَأبَى الغُرُوب، حَتّى حِينَما يَنقَلِبُ كُلُّ شَيءٍ مِن حَولِي إلَى اللَّونِ الأَسوَد؛ لِأَنَّهُ بَينَما تَغرُبُ الشَّمسُ فِي قَارَّةٍ، فَإِنَّهَا تَشرُقُ فِي مَنَاطِقَ أُخرَى. هَذَا مَا ظَللتُ أُرَدِّدُهُ حِينَما أَوشَكَ ذَلِكَ الظَّلَامُ الدَّامِسُ أَن يُغَطِّي بَيَاضِي. لِذَلِكَ حِينَما أَختَارُ المُغَادَرَةَ، دَومًا كَانَ قَلبِي يَمِيلُ نَحوَ الغُرُوبِ.
إلَى الآن أَتَذَكَّرُ ذَاكَ الرَّحِيلَ عَلَى وَجهِ الخُصُوصِ؛ وَدَّعتُ مَدِينَةً بِأَكمَلِهَا فِي غُرُوبِ السَّابِعِ وَالعِشرِينَ مِن شَهرِ شَعبَانَ. كَتَبتُ آخِرَ وَدَاعَاتِي عَلَى المَقعَدِ الَّذِي يُظِلُّهُ عِدَّةُ شُجَيراتٍ، كَمَا فِي وَقتٍ مَا كُنتُ أكْتُب أُولَى تَرَاحِيبِي. حَزَمتُ أَمتِعَتِي كَالعَادَةِ، وَلَكِنَّنِي تَركتُ القِطَارَ يَفُوتُنِي فِي هَذِهِ المَرَّةِ!
هَل تَركتُمُ القِطَارَ يَفُوتُكُم يَومًا مَا؟ هَل شَعَرتُم بِأَنَّ الجَمِيعَ مِن حَولِكُم تَقَدَّمَ، وَأَنتُم رَجَعتُم خُطوَةً وَاحِدَةً أَو عَشرَ خُطُوَاتٍ إِلَى الوَرَاءِ؟ أَن تَشعُرَ بِأَنَّكَ حَقَّقتَ انتِصَارًا بِرَحِيلِكَ، وَلَكِنَّهُ فِي الوَقتِ ذَاتِهِ قَد يَكُونُ انتِصَارًا يَحمِلُ بَينَ طَيَّاتِهِ شَيئًا مِنَ الحُزنِ الثَّقِيلِ الَّذِي يُثقِلُ كَاهِلَكَ، يَزُورُكَ بَينَ الحِينِ وَالآخَرِ خِلَالَ الفَترَةِ الَّتِي فَاتَكَ فِيهَا القِطَارُ. وَيَظَلُّ هُنَاكَ سُؤَالٌ بَارِزٌ عَالِقٌ فِي رَأسِكَ: هَل سَأَلحَقُ بِالمَحَطَّةِ التَّالِيَةِ؟
حَقِيقَةً، لَم أَجِد جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ إِلَّا حِينَما تَركتُ اللِّحَاقَ بِالقِطَارِ. تَركتُ المَحَطَّاتِ تَفُوتُنِي؛ لِأَنَّنِي عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ المَحَطَّةَ المُقَدَّرَةَ لَكَ لَن تَفُوتَكَ أَبَدًا، مَهمَا تَاهَت عَنكَ، سَتَجِدُكَ وَسَتَجِدُهَا. كَالطَّيرِ الَّذِي طَارَ مِن قَفَصِهِ، وَأَخَذَتهُ الرِّيَاحُ إِلَى غَربٍ بَعِيدٍ وَهُوَ مَا زَالَ يَبحَثُ عَن شَرقِهِ، ثُمَّ فِي يَومٍ مَا اصطَدَمَ بِشَجَرَةٍ وَجُرِحَ جَنَاحُهُ، وَصَدَفَ أَنَّ الجَالِسَ تَحتَ الشَّجَرَةِ هُوَ مَالِكُ الطَّيرِ الجَرِيحِ الَّذِي يَفتِقِدُه! وَحِينَئِذٍ فَقَط سَتُبصِرُ مَعنَى أَنَّ لِلفَوتِ مَقدِرَةً عَلَى إحيَاءِ مَا فَاتَ مِنكَ وَعَنكَ. فَكَم مِن بَذرَةٍ زُرِعَت فِي غَيرِ أَرضِهَا، وَمَا أَن هَطَلَ المَطَرُ فَجأَةً عَلَى تِلكَ البُقعَةِ مِنَ الأَرضِ حَتَّى أَزهَرَت.
وَبِذَلِكَ يَخطُرُ فِي ذِهنِي مَا يَقُولُهُ البَعضُ عَن كَونِ تَفويتِ القِطَارِ «النِّهَايَةَ»، بَينَمَا فِي الوَاقِعِ قَد يَكُونُ تَفويتُهُ «أَوَّلَ الغَيثِ». وَنِهَايَةُ الأَشيَاءِ لَا تَعني دَومًا أَنَّهَا نِهَايَةٌ سَيِّئَةٌ، بَل فِي الوَاقِعِ قَد تَكُونُ بِمَثَابَةِ البِدَايَةِ. لِذَلِكَ، إِن مَرَّت عَلَيكَ لَحَظَاتٌ فِي حَيَاتِكَ شَعَرتَ فِيهَا بِأَنَّ شَمسَكَ شَارَفَت عَلَى غُرُوبِهَا وَبِأَنَّ قِطَارَكَ قَد غَادَرَ، تَذَكَّرْ أَنَّ لِكُلِّ شَخصٍ مِنّا قِطَارَهُ الفَائِت، وَرَغمَ احْتِمالِ اخْتِلَافِهِ مِن شَخصٍ لآخر، إلا أَنَّكَ لَستَ وَحيدًا.