في الماضي، كانت الهوية الثقافية تُبنى ببطء داخل الأسرة التي تزرع القيم الأولى في الطفل، ثم تنتقل إلى المدرسة التي تعزز هذه القيم وتضيف إليها المعارف، لتتبلور لاحقًا في فضاء الحيّ والمدينة، فتتشكل شخصية الفرد في إطار محلي واضح الملامح، يستمد منه لغته ولهجته وعاداته وتقاليده وحتى طموحاته وأحلامه، وكانت البيئة القريبة هي المرجع الأساسي لكل شيء تقريبًا، فلا مؤثرات خارجية إلا في حدود ضيقة جدًا، وغالبًا ما تكون عبر الكتب أو المسافرين الذين ينقلون حكايات عن أماكن بعيدة.
أما اليوم فقد انقلبت الصورة تمامًا، إذ لم تعد الهوية المحلية مغلقة أو ثابتة كما كانت، بل أصبحت في مواجهة يومية مع عالم مفتوح بلا حواجز، عالم يتسلل إلى جيب كل إنسان من خلال شاشة هاتف صغيرة تحمل معها ثقافات متعددة وصورًا مذهلة وأصواتًا لامعة، تخاطب العقل والوجدان بلغات وأساليب مختلفة، قد تثير الإعجاب وتفتح آفاقًا جديدة، وقد تزرع في النفس الارتباك والتناقض والحيرة بين ما يراه الفرد وما ينتمي إليه من جذور.
لقد أصبح الإعلام الجديد القوة الأكثر تأثيرًا في حياتنا الثقافية، ليس لأنه أتاح لنا الاطلاع على العالم فحسب، بل لأنه أزال الحدود بين الثقافات، فلم يعد الانفتاح مرهونًا بالسفر أو التنقل الجغرافي، بل أصبح التعرض اليومي لمحتوى عالمي حقيقة لا يمكن تجاهلها، فكل دقيقة تعرضنا لموسيقى أجنبية، أزياء عالمية، لغات جديدة، وصفات طعام، أفكار، قناعات، حكايات، وممارسات اجتماعية تختلف عما ألفناه، وكل ذلك يصلنا بلا استئذان، ويتنافس على تشكيل ذوقنا ولغتنا وحتى طريقة تفكيرنا وسلوكياتنا.
هذه الثورة الرقمية الهائلة أحدثت تحولات عميقة في مفهوم الهوية المحلية، فلم يعد الشاب الخليجي أو المغربي أو المصري يستمد مرجعياته من بيئته فقط، بل صار يقتبس من الترند العالمي، يقلد المؤثرين، يتحدث بلهجة هجينة، ويتبنى قناعات سريعة التغير، وأحيانًا متناقضة في الوقت ذاته، ومع ذلك فإن هذا لا يعني بالضرورة أن الهوية المحلية في طريقها إلى الذوبان، لكنها بلا شك تواجه تحديات غير مسبوقة، لأن المحتوى الرقمي رغم أنه يثري التجربة الإنسانية ويفتح آفاقًا للتنوع، إلا أنه قد يضعف الإحساس بالانتماء، أو يغري بالتخلي عن الخصوصيات الثقافية لصالح نمط عالمي مكرر بلا لون ولا طعم.
في المقابل يمكن للإعلام الجديد نفسه أن يكون أداة لتعزيز الهوية إذا أُحسن توظيفه، فقد ظهرت قنوات ومنصات على يوتيوب وتيك توك وإنستجرام تقدم محتوى باللهجات المحلية، وتعرض العادات والتقاليد وتروي قصص الأجداد وتعرف بالأزياء والمأكولات والموسيقى التراثية بشكل عصري وجذاب، وهو ما يمنح ثقافتنا فرصة لتُعرّف العالم بها بدل أن تذوب فيه، والفرق بين أن نتبنى هوية الآخر بالكامل أو نُحسن تقديم هويتنا له هو ما سيحدد مستقبلنا الثقافي، وإذا كانت المنصات العالمية تسعى لتوحيد الأذواق، فإن مسؤولية المجتمعات والأفراد والمؤسسات تكمن في جعل الثقافة المحلية منافسة وجذابة وقادرة على التأثير، ولعلّ الإقبال العالمي المتزايد على الأغاني الشعبية والأزياء التراثية والحكايات المحلية المصورة مثال واضح على أن الهوية المحلية قادرة على الانتشار إذا استثمرنا الإعلام الجديد بذكاء.
ختاماً.. الأمر يستدعي منا وعيًا عميقًا بأن الانفتاح لا يعني الذوبان، وأن الفضاء الرقمي ليس تهديدًا بالضرورة، بل فرصة لصناعة حضور ثقافي مؤثر يعبر عنا بروح عصرية تحفظ الجذور وتواكب المستقبل.
ahmadsinky@hotmail.com