هل تتذكر أول يوم دراسي لك؟
تلك اللحظة التي بدت فيها الحقيبة أثقل من جسدك والفصل أكبر من خيالك. لم تدخل مبنىً للتعليم فقط، بل عالمًا يشبه الحياة المصغّرة، حيث بدأنا نتعلم أول دروسنا غير المكتوبة: أن الزمن يُقاس بالجرس، وأن الهوية تُصاغ بين الأصدقاء والمقاعد، وأن الحرية أحيانًا لا تكون غيابًا للقيود، بل مساحة نخلقها بأنفسنا.
في المدرسة أدركنا أن الوقت ليس نهرًا بلا شكل، بل وحدات متقطعة: أربعون دقيقة للرياضيات، تليها أخرى للغة، ثم استراحة قصيرة. هذا الإيقاع البسيط كان درسًا في معنى الزمن، وأول إعلان أن حياتنا كلها ستسير على إيقاع مشابه: دوام العمل، سنوات الجامعة، وحتى مراحل العمر. المدرسة إذن لم تكن مكانًا لتلقين الدروس فقط، بل مختبرًا زمنيًا ندخل إليه لأول مرة.
وهناك أيضًا تشكّلت ملامحنا الأولى. الطفلة الهادئة، المشاغب، القائد، أو الحالم.. هذه الأدوار لم تختفِ حين غادرنا الصفوف، بل رافقتنا كظلّ خفي. كل بالغ يحمل داخله ذلك التلميذ الذي كانه يومًا، بكل خوفه وأحلامه الصغيرة. المدرسة بهذا المعنى هي مصنع للهويات، وليست مجرد قاعات دراسة.
ورغم صرامة الطابور والزي الموحّد والجرس الصارم، كانت المدرسة أول درس في الحرية. كنا نرسم في دفاترنا رسومات جانبية، نبتكر ألعابًا سرّية في الفناء، ونختلس الضحكات بين الحصص. الحرية لم تكن غيابًا للنظام، بل قدرتنا على أن نبتكر مساحة خاصة داخل القيود.
ومن ذاكرة أول يوم دراسي لا تُنسى: مقعدك الخشبي، أول كلمة كتبتها بيد مرتجفة، أول مرة وقفت أمام الصف، وحتى رائحة الطباشير وتدافع الطلاب وقت الفسحة… كل هذه التفاصيل تجعل المدرسة خالدة فينا.
لهذا، حين يبدأ العام الدراسي كل عام، يبدو كأنه بداية كونية. ليس مجرد موسم للكتب الجديدة والحقائب الملونة، بل تذكير بأننا لا نتوقف عن التعلم أبدًا. كل بداية دراسية هي إعلان أن الإنسان سيظل تلميذًا في مدرسة أكبر اسمها الحياة، وأن الدرس الأعمق ليس في المقررات، بل في قدرتنا الدائمة على أن نبدأ من جديد.
فالمدرسة، في جوهرها، ليست لتصنع تلميذًا مطيعًا يذوب في الصفوف، بل إنسانًا يملك شجاعة الاستقلال وروحًا أصيلة تقف في وجه التحديات. إن قيمتها الحقيقية لا تُقاس بعدد الدروس المحفوظة، بل بقدرتها على أن تترك فينا بذرة حرة، تجعلنا نواجه العالم كأفراد لا كنسخ متشابهة
عودًا مباركًا لجميع الطلاب والمعلمين.
raedaalsaba@gmail.com