حدثتني إحدى الصديقات عن بعض المشاهد العاصفة !! التي تمت في عزاء أحد أقاربها والتي لم تدر في حسبانها وهي التي كانت قد حضرت العزاء وهي في أشد حالات الإنكسار والألم والدموع التي لم تفارقها والذكريات التي ترادوها في كل دقيقة، تقول صديقتي ـ عظم الله أجرها وأحسن عزاءها ـ أن إحدى القريبات اتصلت عليهم معزية ومخبرة لهم أن بعض الضيوف المخمليين سيشرفون مجلسهم وأن عليهم أن يقدموا أفخر أنواع التقديمات وأن يستقدموا المضيّفات ومايتبع هذا التقليد من أمور لا يتم تنظيمها إلا في المناسبات السعيدة وأضافت هذه القريبة توجيهاً آخر يقول «لاتجلسوهم مع الناس»! ومع الشكر الجزيل لهؤلاء المخمليين وللقريبة التي كلفت على نفسها عناء التنسيق الفاخر ! إلا أن حضورهم كان عبئاً إضافياً لم يكن لهم طاقة به ذلك الوقت ! وفي جانب آخر وعلى مدى الثلاث أيام تضيف صديقتي المفجوعة أن البنات القادمات للتعزية انزوين في صالة البيت وعلى مقربة من الباب الخارجي والذي كان بوابة لمناديب التوصيل الذين استمر ارتيادهم للبيت لثلاث أيام وفق طلبات البنات وما يشتهين من حلويات ومأكولات تزيد جمعتهن جمالاً وبهجة ! مستثمرين تلك الأيام التي لا تأتي إلا عند الفجائع!
وإذا كان للعزاء مكانة عظيمة تتجلى فيها مشاعر التراحم والمواساة وتخفف عن أهل الفقيد آلامهم إلا أن التطور والتغيرات المتسارعة لم تستثنيه ولم «تتركه في حاله» ! فقلما تجد مجلساً نسائياً يخلوا من «البراطم المنفوخة» والوجوه الملونة بمساحيق يقال أنها مخصصة للحزن ! والتعابير التي لاتستطيع أن تترجم المشاعر الحقيقية كما هي بعد أن لعب فيها البوتكس لعبته فحرمها جمال المواساة وروعة المشاركة مع أهل العزاء !
وإذا كانت تلك المجالس انتقلت من مجالس مواساة حقيقية إلى واجب اجتماعي بحت يدخل فيه صاحبه وهو يحمل شعار «أعزي وأفتك» بمعنى حضور «زيادة عدد» بلا معنى حقيقي أورغبة في المواساة والوقوف بجانب المكلومين، حتى الأطفال لم يعودوا يستقون الدروس من تلك المجالس ذات العبر والمواعظ ومافيها من توثيق روابط الأخوة والإحساس المشترك التي لا تعد، بل أن أحد الأطفال دخل مجلس عزاء متوفى اسمه خالد فقال معزياً «الله يخلده في النار» ! ويبدوا أنه تدرب على المشهد ومن شدة التدريب أخطأ الطريق!
ولعل من الاقتراحات التربوية الحتمية في هذا العصر تعليم الصبية والفتيات آداب مجالس العزاء وألفاظها ومافي الموت من رسائل كونه أبلغ المواعظ.عموماً ولو أني من غير المؤيدين لفكرة العزاء الإلكتروني لكونه خالي من رسالة العزاء ومعانيه السامية، إلا أنه قد يكون حلاً ومخرجاً للخارجين عن السيطرة وفي هذا السياق أتذكر وصية إحدى الأمهات والتي أكدت بفتح مجلس عزاء حقيقي لها تحظي به بدعوات المعزين وذكرهم الطيب بعيداً عن افتراضية المواقف.
وإن كنت لا أعتبر العزاء عزاءاً حتى تتعانق القلوب وتصل نبضاتها المكلومة قبل تلامس الأيدي ولا معنى من أن أكتب عبارة صامتة وأذيلها باسمي وكأني أقوم بتوثيق عمل مجرد من الأحاسيس وإذا انتقلت معظم الأعمال للعالم الافتراضي فلا أقل من أن تكون مشاعر الفرح والحزن صادقة مباشرة للقريبين على قلوبنا والذين لايشفينا تواصلنا معهم تواصل الكرونيون. !
حفظ الله أحبابنا وأحبابكم.
ganniaalghafri@gmail.com