ضحيّةٌ تتخبّطُ بين جدرانِ البشرِ، تتوهّمُ سرابَ أذرُعٍ ممدودةٍ، تندفعُ لها لتحضنَها، فتوقعَها أرضًا. تقفُ، وتنفُضُ الغبارَ عن ملابسِها، وتلهثُ وراءَ أسطورةٍ بوجودِ يدٍ حاضنةٍ لا تُوقِعُ أرضًا مَن يَمسُّها. لعبةُ العالمِ المفضَّلةُ هذه، وطريقةُ الفوزِ الوحيدةُ هي إيجادُ اليدِ الحاضنةِ قبل أن يُقتلَ من كثرةِ الوقوعِ والرُّضوض.
مجاهِدٌ في حربٍ لم يشهدْ عليها أحدٌ، القتيلُ الوحيدُ في ساحةِ حربٍ لا أحدَ يعلمُ تاريخَها، ولا لأيِّ زمنٍ تعودُ، تتوسَّطُها جثّةٌ لا تتحلَّلُ، جاعلةً دماءَها كالسِّجادِ من تحتِه، وكأنَّها العلامةَ الحمراءَ الوحيدةَ الدالَّةَ على ما عانى منه وما واجه.
قتيلٌ قُتِل لسببٍ مجهولٍ، قُتِل بالتأكيدِ قبلَ طعنةِ السيفِ تلك، ولا أحدَ يعلمُ ما قُتِل لينصُرَ، ولِمَ لَمْ يتنحَّ عن ضربةِ السيفِ السهلةِ تلك؟ ولِمَ كان يُحاربُ وحدَه؟ لِمَ جسدُه مليءٌ بالرُّضوض؟ ومن أيِّ بلادٍ أتى؟ وأيُّ حاكمٍ هذا يا ترى الذي أرسلهُ يقاتلُ جيشًا لوحدِه؟ يا لبطشِه! لِمَ ارتضى المجاهِدُ لنفسِه حربًا الموتُ فيها محقَّق؟ أكان الموتُ هو يدَه الحاضنةَ؟ ففقِه ذلك وألقى نفسَه فيها؟
لا جدوى من الأسئلةِ، مات القتيلُ وماتت قصّتُه معه، لم يكتبْها أو يسطرْها على ورقٍ، ولم يورِّثْها لولدٍ ولا لنفحةِ عرقٍ. مات سرُّه ولم يمت لُغزُه. كم منَّا بداخله قتيلٌ كهذا؟ قتيلُ تلك الذكرى المؤلمةِ التي لا يُحبَّذُ ذِكرُها، قتيلُ تلك المشاعرِ المُرَّةِ التي قتلته قبل أن يتوسَّدَ السيفَ في نصفِ صدرِه، قتيلُ الروحِ حيُّ الجسد.
سمعتُ أنينًا صادرًا من الجثّةِ، فهرعتُ إليها، فهو حيٌّ! وما إن وقفتُ بمحاذاتِها حتى سمعتُه يقول، ممّا كتب عمر أبو ريشة:
تتساءلين علام يحيا هؤلاء الأشقياء؟
المتعبون ودربهم قفر ومرماهم هباء
الواجمون الذاهلون أمام نعش الكبرياء
الصابرون على الجراح المطرقون على الحياء
أنستهم الأيام ما ضحك الحياة وما البكاء
أزرت بدنياهم ولم تترك لهم فيها رجاء
تتساءلين وكيف أدري ما يرون على البقاء؟
إمضي لشأنك اسكتي أنا واحد من هؤلاء
solaf.almudhi@outlook.com