حين يُباع الفراغ تحت مسمى المحتوى

في هذا العصر، لم يعد الفراغ مساحة صامتة بين حدثين، بل صار مادة خام تُباع وتُشترى، وصار من الممكن أن يُمنح لقبٌ مهيبٌ لشخصٍ لا يملك إلا القدرة على البقاء أمام عدسة هاتف..!
صانع محتوى.. عبارة مخملية تُكتب بخطٍ عريض لتغطي خواءً يملأ الأفق، كما يغطي الضباب مدينة بلا معالم.
لكن ما يُسمّى صناعة هنا ليس إلا صناعة للوهم.
فالمصانع الحقيقية لها آلات ومعايير وجودة إنتاج، أما هنا، فخط الإنتاج الوحيد هو تدفق النقرات، والمادة الخام هي الانتباه المسروق، والمنتج النهائي هو دقائق من اللهو المعلب، يمكن استهلاكها ثم رميها بلا أثر. أما «المحتوى»، فغالباً هو ظل باهت لفكرة سُرقت، أو ارتجال بائس لتقليدٍ بائس آخر.
المنصات لا تبحث عن الحقيقة، ولا عن المعنى، بل عن زمنك الشخصي لتبيعه.
وكل ثانية تقضيها أمام الشاشة تتحول إلى رقم في تقرير أرباح شركة ما، وإلى نقطة في منحنى انحدارك الفكري. أنت لا تشاهد لتعرف، بل لتبقى مشغولاً عن السؤال: لماذا أشاهد؟
في زمنٍ كانت فيه الكلمة مسؤولية، كان الصحفي يخاطر ليكشف، والكاتب ينهك نفسه لينحت جملة تبقى، والمصور يطارد الضوء ليقتنص لحظة لا تتكرر. أما الآن، فالضوء يُعدَّل بفلاتر جاهزة، واللحظة تُكرر حتى تفقد معناها، والكلمة تُستبدل بإيموجي.
وحين تفقد المعايير، لا يعود مهماً أن يكون ما يُقال صادقاً أو مفيداً ، بل أن يكون سريعاً ولامعاً ، يلتقطه المتلقي قبل أن تلمسه عين النقد. صار «صانع المحتوى» أقرب إلى مُهرّج في ساحة عملاقة، يُكافأ بقدر ما يثير الضحك أو الصدمة أو الغريزة، لا بقدر ما يثير التفكير.
الأدهى أن هذه المنظومة لا تعمل وحدها، بل تدعمها جيوش من المتابعين الذين صاروا مقياس القيمة. مقياس القيمة لم يعد الدقة ولا الصدق، بل عدد الإعجابات. صار بإمكان أي شخص أن يقفز على الطاولة، يصرخ بكلمات مبعثرة، ويحصل على لقب «مؤثر»، بينما يُترك من يكتب بحثاً أو يقدم معرفة ليغرق في عزلة الأرقام الباردة.
هذه ليست صناعة، بل إعادة تدوير للعدم. إنتاج متواصل لما لا يستحق الحفظ، وتصدير منهجي لمفهوم أن الشهرة غاية بحد ذاتها.
لكن هناك خطراً أعمق.. خطر زحف هذا المفهوم على بقية الحقول. حين يصبح كل شخص «صانع محتوى» يفقد المصطلح معناه، تماماً كما تفقد العملة قيمتها إذا طُبعت بلا توقف. يتساوى الباحث الذي أمضى سنوات في دراسة معقدة مع من بث فيديو عن «تحدي غريب» ويتساوى الصحفي الذي خاطر بحياته ليكشف جريمة حرب مع من قرر أن يسجل نفسه وهو يفتح علبة حلوى أمام الكاميرا.
لقد اختلطت الأضواء بالظلال، حتى صارت الظلال أكثر وضوحاً من الأضواء نفسها.
سيأتي يوم ينكسر فيه هذا السقف الزجاجي للفراغ، حين تتوقف الجماهير عن شراء الهواء المعلب، وحين تسقط الأسماء التي لم تبنِ سوى على الرمل. يومها، سيتضح أن كثيراً من «صناع المحتوى» لم يكونوا يصنعون شيئاً، بل كانوا يُصنعون.
وحتى ذلك الحين، سيبقى الزمن الرقمي يوزع الألقاب كما توزع الجوائز التذكارية في حفلة مدرسية.
mohalarab75@gmail.com

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *